8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

دمشق رفعت مسؤوليتها عن الأزمة اللبنانية المستمرة منذ أربعة أشهر وحمّلتها للمدمّرة "كول"

الحسابات الدقيقة للوقائع والاحتمالات والامكانات، هي التي تصنع قرارات الدول، وتنتج لها موقعاً يوازي طموحاتها. في منطقة الشرق الأوسط حالياً قوتان تعرفان ماذا تريدان. تركيا وايران. الآخرون وهم العرب غارقون في دوامات المواجهات القائمة على الفعل وردود الفعل. حتى إسرائيل، تبدو حالياً وكأنها فقدت بوصلة وجهة استراتيجيتها. المشكلة كما يقال في إسرائيل "انه لم يعد يوجد قادة، يوجد سياسيون. والفارق كبير بين مَن يخطط لفترة تصل إلى خمس سنوات، ومَن يتعامل مع الأحداث يوماً بيوم".
الانسحاب والزيارة المدروستان
القيادة العسكرية التركية، اختارت بسرعة الانسحاب من شمال العراق، مع ترك "الجرح" مفتوحاً، حتى لا تضطر اعتماد خيارات لا يجب أن تأخذ بها حتى ولو أغضبت حليفتها الولايات المتحدة الأميركية. الانسحاب العسكري التركي جرى بسرعة حتى لا يقع أي اشتباك مع "البيشمركة" العراقية، فتتحول المواجهة إلى تركية ـ كردية، بدلاً من أن تبقى مسألة داخلية اطارها "محاربة الارهاب". وأيضاً حتى لا يكون ثمن المتابعة الانخراط في الحرب الدائرة في افغانستان، ولا التسليم بنصب صواريخ ورادارات أميركية ضمن خطة "الدرع الصاروخية" الأميركية فوق أراضيها، لأن هدفها الأول والأساس، ايران. في الوقت نفسه فإن انقرة قادرة بعد امتصاص ردة الفعل الداخلية والكردية والدولية، على معاودة تحركاتها بطريقة مدروسة بعناية، بناء على التجربة السابقة.
طهران، ليست بحاجة لتأكيد نفوذها في العراق، فهذا النفوذ قائم وثابت منذ الغزو الأميركي وسقوط نظام الرئيس صدام حسين. مع ذلك اختارت طهران أن يقوم الرئيس أحمدي نجاد المتشدّد بزيارة بغداد، هذه الزيارة التي مهما قيل عن ابتعاد الأميركيين عنها وعدم حصول أي احتكاك مباشر أو غير مباشر بينهم وبين الوفد الايراني، فإن ذلك لا يعفي من متابعة الزيارة الايرانية الأولى من نوعها في ظل الاحتلال الأميركي للعراق. مهما يكن، فإن هذه الزيارة أكدت علناً "النفوذ الايراني" في عراق ما بعد صدام حسين. وعلى الأميركيين وغيرهم أن يأخذوا في الاعتبار هذا "النفوذ" في كل تحركاتهم، وخصوصاً إذا فكرت واشنطن في لحظة درامية بشن حرب ضد ايران تحت أي حجة من الحجج.
ضمن الحسابات الدقيقة لطهران، فإن القيادة فيها، التي لم تحول الزيارة إلى تحد لواشنطن ولم تضعها كما اعتدنا في "الخطاب النجادي" في اطار "الصفعة" وغير ذلك، اعتمدت الانفتاح على محيطها الجغرافي، فأبلغت من يعنيهم الأمر وخصوصاً الرياض ان الزيارة هي لدعم الاستقرار في العراق الذي متى حصل امتد إلى الخارج وفتح الباب على إسقاط خطر "العرقنة" التي يلعب البعض بنارها رغم كلّ أخطارها على الجميع بمن فيهم هؤلاء اللاعبون.
"المحرقة الفلسطينية"
لأن كل الملفات متشابكة، والساحات متداخلة، فإن ملاحقة "المحرقة الفلسطينية"، و"بورصة" الحروب في لبنان، جزء من كل ما سبق. لا يمكن للخصم قبل الحليف والشقيق سوى ادانة الاجرام الاسرائيلي في غزة أولاً، بعد ذلك يمكن الدخول على هذه السياسات التي تبدو بلا أفق، صياغة وتنفيذاً.
إسرائيل تعاني من أزمات داخلية بعضها طارئ وبعضها ناتج عن تراكمات متوالية منذ فترة طويلة. ايهودا اولمرت يريد وراثة نفسه بعد استعادته لكفاءته المجهضة في حرب تموز 2006، وإيهودا باراك يريد ان يرث "كاديما" وأولمرت معاً، واستعادة "صحته العسكرية" التي خسرها بالانسحاب الاحادي عام 2000 من لبنان يكون من خلال إبراز قدرته على الحسم العسكري.
فلسطينياً، الصراع مكشوف بين حركتي "فتح" و"حماس" من جهة، والصراع المكمل له داخل "فتح" و"حماس" أيضاً، مما يدفع كل طرف على حدة للذهاب بعيداً في "مغامرات" يضعها في صيغة المواجهة الشاملة، يتم خلالها "استثمار تضحيات وعذابات الشعب الفلسطيني المعذب بلا حدود". وفي الوقت نفسه ولأن هذا الصراع جزء من منظومات اقليمية، فإن الهم الأخير خارج الاستثمار الإعلامي لهذه القوى، هو تضحيات الفلسطينيين، فالضحايا ليسوا أكثر من أرقام تدعم تصلبهم.
في لبنان، لم يعد اللبنانيون يعرفون أي حرب ستبدأ على أرضهم أولاً. "الحرب الأهلية" أم الحرب الشاملة والمفتوحة، في وقت يستمر فيه "الفراغ المنظم" سيد الموقف. العجيب ان البعض من اللبنانيين يتحدث عن الحرب وكأنها الحل لكل مشاكل الأمة العربية، لأن ساعة الحسم قد دقت. المهم أن يصمد اللبنانيون ويتابعوا استعداداتهم "للحروب".
في هذه الاثناء تتلاعب دمشق بالجميع. تأخذهم إلى حافة الهاوية وليكن ما يكون. الشرط الأول هو الاستسلام لشروطها ومطالبها، وإلا فلتكن النتائج "محرقة" للجميع.
هذه القدرة على التعامل مع حاضر العرب، كل العرب وليس لبنان واللبنانيين، ناتجة عن اطمئنان عميق بأن كل ما يجري يقف عند حدود "سلامة النظام". ولذلك الباقي تفاصيل. وهي تستخدم وتستثمر الضد مع ضده، وهي حتى الآن حققت نجاحات مضمونة.
المدمّرة "كول"، تحولت بين ليلة وضحاها إلى معطل للمبادرة العربية وأبقت الأزمة قائمة والحل معلقاً. وكان هذا "الفراغ المنظم" الذي يعيشه لبنان لم يمض عليه أربعة أشهر، وهو مرشح للاستمرار حتى ربيع العام 2009، كما أن المدمّرة "كول" تحولت إلى حجة لتأكيد ممانعة دمشق وصمودها في مواجهة "الشيطان الأميركي".
نتيجة لذلك اصطفت القوى الحليفة وراءها استعداداً للحرب فوق أرض الساحة المفتوحة أمام الانتصارات وهي لبنان. أما الآخرون فليس المطلوب منهم سوى الاستمرار في مواقفهم وملاحقة الاستثمارات "الهاطلة" عليهم.
تأكيداً لهذا الالتحام مع دمشق في مواجهة "كول"، فإن الواقفين في هذه الصفوف الطويلة الهادرة في الساحة اللبنانية، يشيدون "بشجاعة الرئيس بشار الأسد القادر على اتخاذ أصعب القرارات وأخطرها بدون تردد على عكس والده الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي كان يطحن المفاجأة لكثرة ما يتردّد وهو يقرأ الوقائع والخيارات والاحتمالات". مع هكذا قيادة، يؤكد "الممانعون" انهم يستطيعون "خوض الحرب الشاملة وهم متأكدون من الانتصار".
لا يفكر "الممانعون" بقدرة اللبنانيين على اقحامهم في حرب جديدة وهم لم ينتهوا من بناء ما تهدم، ولا يهمهم وضع الجبهة الداخلية الواقعة على شفير الانفجار في حرب أهلية مدمّرة. النار يمكنها برأيهم صهر كل الخلافات.
المشكلة الحقيقية انه سواء وقعت الحرب أم لم تقع، فإن الخاسر الكبير فيها هو الفلسطيني في الداخل واللبناني القلق، لأن التفاوض في كل الحالات سيكون على مستقبلهم أولاً وأخيراً.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00