برنار كوشنير، طبيب قبل أن يكون وزير للخارجية، وهو طبيب يفاتح "المريض" على عكس "المدرسة الفرنسية" بحقيقة مرضه، حتى لو أوجع "مريضه" وأحرج "عائلته". هذه "العادة الكوشنرية"، تثير في أحيان كثيرة الزوابع، لكن سرعان ما تنتهي، لأن القرار بكل ما يتعلق بالسياسة الخارجية، يبقى في الإليزيه. هذا الميدان سيادي يخص الرئاسة في "الجمهورية الخامسة". كوشنير القادم أيضاً من ساحات المهمات التي جعلته على احتكاك يومي ومباشر مع الهيئات والمنظمات الإنسانية والإعلامية، اعتاد أن يقول ما يفكر فيه عالياً، وأن يفكر في ما قاله بينه وبين نفسه. لهذا لا يجد حرجاً بالتراجع في الشكل، من دون أن يتنازل عن المضمون.
التقاليد البرلمانية العريقة
"إطلاق النار" باتجاه لبنان الذي قام به وزير الخارجية كوشنير أمام عشرات الصحافيين في مؤتمره الصحافي الشهري لم يكن "عشوائياً"، بالعكس كان مركزاً. مهما كان الانفعال قوياً، فإن ذلك لا يبرر مطلقاً السرعة في "الرد". ولذلك فإن كوشنير أراد إيصال "رسائل" بكل الاتجاهات التي تعني لبنان، وأن تكون "عناوين الرسائل" واضحة ومقروءة بسرعة، حتى إذا جاء أي تلطيف لمضمونها فيما بعد، يبقى الأساس قائماً، حيث التعامل المستقبلي ويأخذ بدقة المسار المرسوم والمطروح علناً.
الذين يعرفون ويتابعون برنار كوشنير يقولون إنه مُحبط من مسار الأزمة اللبنانية، ومن بقاء الطريق مسدوداً أمام الحل، خصوصاً أن ما خصصه للبنان من جهد يظل لا سابق له في تاريخ الديبلوماسية الفرنسية. فالوزير كوشنير زار لبنان سبع مرات وأمضى في كل مرة أكثر من ليلة، هذا عدا جولات المبعوثين من أعلى المستويات التي شملت بيروت ودمشق والرياض وطهران وواشنطن. ومما زاد ويزيد رد فعل ساركوزي أن لا شيء يسمح ولو لبعض الأمل بإخراج الأزمة اللبنانية من النفق المسدود قريباً، في وقت تظلل الأخطار هذه الأزمة ومن كل الأنواع.
وزير الخارجية الفرنسي أطلق النار دفعة واحدة على دمشق والرئيس نبيه بري و"حزب الله" و"حماس" وأحمد جبريل، وهو إذ قام بذلك فلأنه يعتقد أن هذه القوى منفردة أو مجتمعة تمنع الحل في لبنان.
وإذا كانت المفاجأة الحقيقية تمثّلت في استهداف بري علناً، فإن ذلك لا يمنع من أن هذا الهجوم ليس الأول وإن كان في السابق "أقل حدة". ويبدو أن مسألة "إقفال البرلمان"، أصبحت "سلاحاً" قوياً يمكن تصويبه واستخدامه بفعالية، خصوصاً في بلد مثل فرنسا حيث التقاليد البرلمانية عريقة ويعتبر أي خرق لها في الداخل أو الخارج نوعاً من "المحرمات" أو حتى "مساً مباشراً بمقدسات الديموقراطية".
بعيداً من هذا التصويب، فإن تشديد كوشنير على "الصلات الوثيقة" التي تجمعه ببري، يمكن أن تفسر كلامه بأنه دعوة مباشرة للقيام بتحرك سياسي خارج الضغوط التي تقع عليه من "الخارج"، لكي يجرى انتخاب رئيس للجمهورية بأسرع ما يمكن، لأن الاقتراب من خط النهاية للتوصل إلى حل يُخرج لبنان من نقطة الخطر.
"اللعب في الوقت الضائع"
الكلام الجدي والجديد فعلياً هو ما يتعلق "بحزب الله". وإذا كانت أوساط كوشنير قد حاولت وعملت لتلطيف حدة تصريحه حول الرئيس بري، فانها لم تكلف نفسها عناء ترطيب الأجواء بما يتعلق بالحزب وتسليحه، وكأن "الرسالة" التي وجهت مقصودة بالشكل والمضمون.
للمرة الأولى يشدّد مسؤول غربي بحجم وزير الخارجية الفرنسي على انّ تسليح "حزب الله" تجاوز السقف الداخلي اللبناني وانه أصبح بالغ الخطورة". وبهذا المعنى فان "الرسالة الكوشنيرية" المتعلقة "بحزب الله" ليست رسالة أحادية المصدر بل هي تعددية. ومما يثبت ذلك، الاتهام الجديد للجنرال الأميركي دايفيد بترايوس حول "دور حزب الله" في العراق، إضافة إلى جملة تقارير دولية تتقاطع حول هذه النقطة. ولذلك كله فان سؤالاً كبيراً صار مطروحاً في باريس: هل يعني هذا الاتهام للحزب "تهديداً" أو دعوة للانضباط بقواعد اللعبة على مستوى لبنان دون تجاوزه، والتحوّل إلى عامل توتر في المنطقة ضمن مشروع عربي ـ إسلامي تحت بند الممانعة والمقاومة، مما يعني التماس المباشر مع كل ما يعني الأمن القومي الأميركي وأيضاً الأوروبي؟!
تبقى دمشق المركز في "الرشقات النارية" التي وجهها كوشنير، والاحباط الفرنسي من دمشق يتجاوز لبنان ليشمل كل ما يعني المنطقة. فالديبلوماسية الفرنسية مقتنعة الآن أكثر من أي وقت مضى، بأن "دمشق لا تريد الحل الآن، وانها تنتظر حتى ربيع 2009 عندما تستقر الإدارة الأميركية الجديدة لتبدأ معها مفاوضات شاملة حول سلة متكاملة من المطالب المتبادلة". وهذا الموقف يعني بالنسبة إلى باريس، إبقاء الأزمة اللبنانية على تماس بالأعاصير الحالية والآتية، ولا شيء يضمن سلامة لبنان أو إمكان إنقاذه إذا ما دخل في عين الإعصار.
وما يزيد إحباط باريس وغضبها أيضاً وعيها الكامل لعدم امتلاكها سياسة منتجة في مواجهة دمشق وهي لا تملك سياسة العصا ولا الجزرة لكي يمكن الحديث عن نتائج ممكنة سواء كانت سلبية أو إيجابية، وهي في هذا تتساوى مع واشنطن التي تصرح كثيراً عن غضبها ولا تفعل شيئاً وكأن هذا الغضب شيك بلا رصيد. والأصعب من ذلك بالنسبة إلى باريس أن دمشق تعرف هذا العجز وحدوده وهي بالرغم من كل التهديدات المتبادلة مع إسرائيل تبدو مطمئنة إلى بقاء هذا التوتر المعلن مضبوطا لانهما تنتظران معاً بفروغ الصبر رحيل جورج بوش وإدارته لكي تبدأ ما تفعلانه سراً وعلى مستوى محدود علناً وعلى مستوى سياسي جادّ.
باريس ترى أن كل ما يجري في لبنان هو "لعب في الوقت الضائع". لكنه أيضاً "لعب بالنار على مقربة من برميل من البارود".
أمام خطورة ما يجري، تدعو باريس مرات بلغة ديبلوماسية ومرة بلغة حادة وقاسية جميع الأطراف المعنية بلبنان إلى "اللعب بهدوء"، حتى إذا لم يحصل الاتفاق قبل مطلع الصيف المقبل، فان معنى ذلك انتظار ربيع العام 2009. وهي فترة انتظار طويلة جداً وخصوصاً أن "طبول الحرب في المنطقة تواصل القرع مع إمكان حصول مفاجآت حتى نهاية الانتخابات الرئاسية الأميركية.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.