حالة "المراوحة" التي دخلت فيها الأزمة اللبنانية، ليست أحادية. أيضاً "الأزمات" الفلسطينية دخلت المسار نفسه، رغم اختلاف بعض الوقائع والمجريات. ما لم يتم العمل بسرعة وعناية مدروسة جيداً، للتعامل مع هذه الحالة المقلقة يومياً، والمتعبة جداً، فإن الخطر من الانزلاق نحو المجهول يبدو كبيراً، وما يزيد خطورة الوضع، هذا التداخل العميق بين الداخل والخارج، خصوصاً في الحالة الفلسطينية حيث الفصل مستحيل بين الداخل المأزوم، والشتات العالق بين التزاماته الوطنية تجاه قضيته، وأحكام وقوانين ووقائع الدوائر التي يعيش فيها.
العمل الفلسطيني المشترك
القيادات الفلسطينية سواء الرسمية منها أو الفصائل والمنظمات، تبدو، بعد تجارب السنوات الماضية، واعية لهذا الوضع وضرورة التعامل معه بسرعة، حتى لا تقع أي مفاجأة قاتلة. ويبدو ان تطورات وأحداث الأشهر القليلة الماضية عجلت في اتخاذ القرارات التي تضع العمل الفلسطيني بجميع تلاوينه واتجاهاته على مسار يحفظه. ومن هذه التطورات:
* تجربة مخيم "نهر البارد" المُرة، التي ما زال أهله يدفعون ثمن جريمة ارتكبت بحقهم كما ارتكبت بحق لبنان من دون أن يكون لهم أي دور فيها.
* نمو التيار الأصولي الخارج عن حركتي "حماس" و"الجهاد" وارتباطه بالخارج سواء "بالقاعدة" أو غيرها. ولا شك في أن تجربة "فتح الاسلام" في مخيم "نهر البارد" ومحاولة نقلها لحرب خارجية الى الداخل اللبناني، رفع من درجة الحذر والترقب لدى الجميع.
* ان الاشتباك الأخير الذي وقع داخل مخيم "عين الحلوة" بين "عصبة الأنصار" و"حركة فتح"، كشف حقيقة وقوع أكبر المخيمات الفلسطينية في "قلب الاعصار"، مما دفع الى المسارعة للالتفاف على هذا اللغم الكامن وخصوصاً ان موازين القوى على الأرض لم تعد تسمح لحركة "فتح" وحدها بالمواجهة أولاً، ثم أن الخوف من الخلط السريع بين هذا الخطر الأصولي والتوجهات الاسلامية الداخلية حقيقي جداً، خصوصاً اذا ما مزج كله مع شعارات التهجير والتوطين.
* ان امكانية التداخل بين الحالتين الفلسطينية واللبنانية المأزومتين، سيعيد الى الحاضر أسوأ صور الماضي، مما يسهل مهمة التحريض على المواجهة المدمرة.
الحوار مع الجميع
أمام هذه الوضع، لم يعد أمام القيادات الفلسطينية "سوى المسارعة الى لملمة الوضع الفلسطيني في لبنان والعمل لسد الثغر وتوحيد المرجعيات والتعجيل في تفعيل وتطوير مؤسسات العمل المشترك". وبتوجيهات ودعم من الداخل الفلسطيني جرت مفاوضات جادة منذ فترة بين منظمة التحرير الفلسطينية بكل فصائلها من جهة وقوى التحالف المعارضة التي تضم حركتي "حماس" و"الجهاد" لانشاء "هيئة تنسيق عليا لادارة الوضع عبر تقريب وجهات النظر وردم الهوات، والعمل لتوحيد المرجعيات الميدانية والمدنية".
واتخذت هذه العملية الهادفة أساساً الى تحصين الوضع الفلسطيني أمام كل الاحتمالات ومواجهتها سواء كانت سلبية أو ايجابية، اتجاهات متعددة تصب كلها في المسار الأساسي التحصيني. ومن ذلك:
* فتح حوار حقيقي مع مختلف القوى اللبنانية على قاعدة البقاء على مسافة واحدة من كل القوى وبدءاً من الدولة وانتهاء بكل التنظيمات دون تفرقة ولا تمييز وعلى قاعدة واضحة جداً تقوم احترام سيادة لبنان واستقلاله والتأكيد على حق العودة للفلسطينيين ورفض التوطين والتهجير معاً.
* التزام الفلسطينيين بما يجمع عليه اللبنانيون بخصوص السلاح الفلسطيني الموجود على الأرض اللبنانية.
* العمل الجاد للنأي عن الوجود الفلسطيني التأثيرات والانعكاسات السلبية للخلافات الفلسطينية، وهذا الالتزام هو انعكاس للقلق الدائم من تطور الخلاف بين حركتي "فتح" و"حماس" في الداخل الفلسطيني سواء في الضفة أو قطاع غزة على المخيمات الفلسطينية في لبنان، لأنه يصعب جداً ضبط الاشكالات حتى لو كانت محدودة، وخصوصاً أنها ستجري تحت قوس الخطر الأصولي واللبناني معاً.
ترتيب "البيت" الفلسطيني
وفي محاولة جادة لتنفيذ هذا التوجه، فإن حركة "فتح" سارعت للعمل على إصلاح "بيتها" في لبنان، الذي تضافرت العديد من الأسباب منها الوجود السوري الطويل السابق في إضعافها وحتى تفتيت القرار داخلها ويجري ذلك بتوجيه من الرئيس الفلسطيني أبو مازن. وتتم هذه العملية في اطار "اعادة ترتيب الأوضاع داخل الحركة على قاعدة تقسيم العمل بين المسؤولين والمؤسسات وتحديد الاختصاصات، بحيث لا يقع التنافس ولا الحساسيات العائد للتداخل ومحاولة كل طرف اقتناص أقصى ما يمكنه من صلاحيات الآخرين".
ومجرد البدء بهذه العملية الصحية، فإن ذلك يؤشر إلى الجدية، لأنه لا يمكن للعمل الفلسطيني داخل لبنان أن يكون فاعلاً دون أن يكون "العمود الفقري" لهذا الوجود الفلسطيني معافى. كما ان نجاحه لا بد أن يدفع القوى والحركات الأخرى الى التعامل بجدية أكبر مع أوضاعها الداخلية من جهة ومع حركة "فتح" من جهة أخرى.
الفلسطينيون كما يقول العديد من مسؤوليهم جادّون بالمضي في هذه المهمة لأن المرحلة "مرحلة انتظار وشراء للوقت"، فالحلول بعيدة ولن تكون بداياتها قبل ربيع 2009 عندما تكتمل الإدارة الأميركية الجديدة وتتضح وجهة سياستها في المنطقة سواء اتجهت نحو دفع عمليات الحوار والتفاوض أو المواجهة المسلحة. ولا شك في أن مثل هذه المهمة لن تكتمل من دون تزاوج مع مواقف لبنانية إيجابية وداعمة ومسهلة. ومما يشجع على ذلك ان النجاح الفلسطيني هو نجاح للبنان وللبنانيين، لأنه يعني أساساً فكفكة لغم مزروع ستعمل قوى داخلية وخارجية على تفجيره عندما ترى الأمر مناسباً لخططها وتوجهاتها.
ولا شك في ان "المصارحة" الحقيقية والصادقة، هي أفضل الطرق وأقصرها "للمصالحة"، على الصعيدين الفلسطيني الداخلي واللبناني ـ الفلسطيني.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.