وسط حالة المراوحة التي تخيم على أزمات منطقة الشرق الأوسط يشهد النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي تطوراً بطيئاً وثابتاً قد يغير في المستقبل المنظور الكثير من قواعد المواجهة اليومية.
جولة الرئيس الأميركي الاسبق جيمي كارتر في المنطقة، ليست مجرد حجر حرك الدوائر في المياه الراكدة في المنطقة، انها وكما تؤشر التطورات أكثر من ذلك. كارتر حامل جائزة نوبل للسلام، هو "رجل حر" يمثل، ولا شك، أكثر الصور صفاء ونقاوة للأخلاقية السياسية دولياً، جعل من جولته في المنطقة وخصوصاً في مبادرته الاستثنائية، بوضع إكليل من الزهر على ضريح الرئيس الشهيد ياسر عرفات، ومن ثم التقاء قيادة "حماس"، حدثاً مستقبلياً جريئاً بكل الحسابات والمقاييس خصوصاً على الصعيد الأميركي نفسه.
الرئيس الأميركي الأسبق وضع الجميع وخصوصاً واشنطن أمام واقع جديد وهو الحوار مع حركة "حماس"، سعياً للتهدئة والحل في فلسطين، ولانه ليس طارئاً على الملف الفلسطيني في تطوراته الأخيرة، لانه هو من ترأس هيئة مراقبة الانتخابات في أراضي السلطة الوطنية الفلسطينية وأقر بنزاهتها، يصعب توجيه أي تهمة إليه، ويبدو أن هذا اللقاء حرّك وجهة الرياح سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة الأميركية وحتى الإسرائيلية.
واشنطن الرسمية اعترضت على لقاء كارتر مع خالد مشعل زعيم حركة "حماس" في الخارج. لكن اصواتاً أميركية عديدة بدأت بالتساؤل عن جدوى عزل حركة "حماس" إلى درجة تشديدها على أن عزل "حماس" عن أي محادثات فلسطينية ـ إسرائيلية يفضي إلى سلام حقيقي فرضية خيالية، "وانه لا يمكن تحقيق السلام مع نصف الشعب الفلسطيني وان نكون في حالة قتال وصراع مع النصف الآخر".
السقف العالي جداً
باريس، هي ايضا، تتساءل عن جدوى سياسة العزل المخْفِقَة وخصوصاً أن الأميركيين والأوروبيين على السواء قد رفعوا سقف شروطهم كثيراً عندما طالبوا حركة "حماس" "بالتخلي عن الكفاح المسلح والاعتراف بالاتفاقات الموقعة بين إسرائيل ومنظمة التحرير والاعتراف بإسرائيل قبل الحوار معها"، أي إن عليها أن تعطي بلا حساب، وأن لا تحصل على شيء حتى لو كان وعداً بلا ضمانة بالتنفيذ.
الاسرائيليون، هم ايضا، أخذوا يتساءلون عن مستقبل سياستهم ضد "حماس" وخصوصاً "ان سياسة العقاب الجَماعي أخفقت حتى الآن، وأن "حماس" تملك القدرة لعرقلة حتى تعطيل أي اتفاق مع السلطة الوطنية لوضع حد للنزاع"، ومما يرفع درجات الفشل المتوقعة، ان أقصى ما يمكن للحكومة الاسرائيلية تقديمه هو أقل كثيراً من الحد الأدنى الذي في امكان السلطة الفلسطينية قبوله". ولذ لم يكن حدثاً مفاجئاً عرض نائب رئيس الحكومة الاسرائيلية لقاء قيادة "حركة حماس" للتفاوض حول التهدئة وإطلاق الجندي الاسرائيلي الأسير لدى "حماس".
صمود غزة وأهلها أمام الحصار وسياسة التجويع التي وصفها كارتر بأنها "وحشية"، ساهم ويساهم في هذا التحول، أكثر بكثير من الصواريخ التي تطلق وتقع فيما عدا حالات نادرة من الفراغ.
لكن أيضاً وهو مهم جداً، فإن اقتناعا بدأ يجتاح اسرائيل والعواصم الغربية، بأن التصعيد العسكري الاسرائيلي غير منتج. وان كل تصعيد اسرائيلي يقابله تصعيد فلسطيني آخر. ولعل العملية العسكرية الأخيرة "لقوات القسام" ضد الحاجز العسكري الاسرائيلي تؤكد تطوراً عملانياً في التدرّب والتخطيط والتنفيذ، والأهم من كل ذلك ان استمرار الحصار وعمليات القتل المبرمجة وسياسة التجويع، تغذي مجتمعة التشرد والتطرف لدى الفلسطينيين. ومن ذلك ان دور اسماعيل هنية المعتدل قد تراجع داخل الحركة لمصلحة التيار المتشدد الذي يمثله محمود الزهار. هذا على المستوى العام اما على مستوى الشباب الفلسطيني فإن الإقدام على المواجهة والاستشهاد يزداد كل يوم الى درجة أنه صار عادة جديدة لدى الفلسطينيين". نمو هذا التشدد والتطرف سيؤدي حكماً مع الوقت الى صعود حركات أكثر تطرفاً يصبح فيها التفاهم مع حركة "حماس" أمنية.
أكثر ما يقلق الأوساط الغربية، حركة "حماس" التي تضبط ايقاعها مع دمشق، قد تنحرف بسبب الحصار والعزل والسياسة الاسرائيلية التصعيدية أكثر فأكثر باتجاه طهران، مع ما يعني ذلك من أخطار حقيقية متزايدة. ولا شك في أن ذلك ليس من مصلحة احد وخصوصاً العرب وتحديداً مصر التي تجد في خط "حماس" الحالي ضيقاً سياسياً ملحوظاً لما له من انعكاسات مهمة على حركة "الاخوان المسلمين".
هذا التحول الواضح دولياً باتجاه الحوار مع حركة "حماس"، قد يجد صداه في باريس وأوروبا ولكنه لن يظهر في واشنطن الآن، ودوماً بانتظار انتخاب رئيس أميركي جديد. المهم ان تكون "حماس" مستعدة لملاقاة هذا التحول، بالوقت المناسب في منتصف الطريق، وأن يكون ذلك تحريكاً لباقي الأزمات، وبطبيعة الحال للقوى السياسية المتشددة في المنطقة وفي مقدّمها "حزب الله".
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.