حدثان شهدهما النصف الثاني من القرن الماضي، "الحرب الباردة" وعصر الإعلام والاتصال. الحرب انتهت بهزيمة الاتحاد السوفياتي ومعه الكتلة الشرقية وتفككهما، الحدث الثاني نما وتصاعد وتطور حتى أصبح "الشيطان"، الذي دخل "مختلف مجالات الحياة بحيث أصبح المحرك الأساسي لأنشطة الأفراد والجماعات وعاملاً محدداً للسلوكيات والمواقف والعلاقات بين الناس داخل المجتمع الواحد من جهة وبين المجتمعات المختلفة من جهة أخرى". أمام هذا التشابك وحلقات الوصل والاتصال لم يعد ممكناً الفصل بين الإعلام ومختلف القطاعات. وجاءت الثورة الثالثة لتزيد من التشابك، ذلك أن عولمة الاتصالات الالكترونية التي أفضت الى ما يسمى "بالتوسع الأفقي"، ألغت عملياً الحدود وغيرت آليات التواصل المعهودة.
صناعة الإعلام
تحديات وليدة ورهانات صعبة، رافقت كل هذا التوسع المسقط للحدود ـ القيود، بما يمس تشابك الهويات الوطنية التي كانات "صناعتها" حكراً على كل نظام ممسك بحدوده وبمجتمعه أولاً، وثانياً لم يقف حدود هذا التطور عند سيادة الثقافة الاستهلاكية بل تعداها في بعض الأحيان الى نشر وانتشار الاتجاهات المنغلقة والنفاذ خصوصاً في أوساط الناشئة والشرائح الاجتماعية الهشة ثقافياً واجتماعياً.
تونس التي حققت الأمن والاستقرار، وهي الواقعة في قلب دائرة اقليمية معقدة ومليئة بالألغام وحرائق الفكر الأصولي وعنفه "القاعدي" المعروف، ولو بثمن مرتفع نسبياً، تدرك أيضاً أهمية الإعلام في عصر العولمة في المواجهة الكبرى، سواء من يوميات هذا الواقع المعقد والخطر أحياناً، أو في عملية "تعزيز أركان الشخصية الوطنية"، تأكيداً لذلك عقدت صحيفة "الحرية" لسان حال "التجمع الدستوري الديموقراطي"، ندوة تحت عنوان "الإعلام وتحديات العولمة"، تضمنت ثلاثة محاور هي:
* الإعلام في خدمة التنمية الشاملة والعادلة.
* الإعلام في خدمة الحوار بين الثقافات.
* الإعلام في خدمة قيم الحداثة والوسطية والاعتدال.
وجرى حشد عدد من المسؤولين والمثقفين والمتخصصين والإعلاميين منهم، الشاذلي القليبي الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، الدكتور الشاذلي العياري نائب رئيس المجلس الاستشاري الوطني للبحث العلمي والتكنولوجيا، الدكتورة مي العبدالله أستاذة العلوم والاتصال في الجامعة اللبنانية، الدكتورة ماجي الحلواني عميدة شعبة الإعلام في جامعة القاهرة، د. عبدالمجيد فاضل أستاذ في معهد الإعلام في المغرب، د. عبد الوهاب بوخنوفة أستاذ الإعلام في جامعة الجزاز، المدير العام لاتحاد اذاعات الدول العربية صلاح الدين معاوي وبطبيعة الحال وزير الاتصال والعلاقات في مجلس النواب ومجلس المستشارين رافع دخيل والمضيف رئيس صحيفة "الحرية" المنجي الزيدي.
مصالحة التكنولوجيا والايدولوجيا
ولا شك أن القاعدة المحركة للندوة بعيداً عن الكلمات سواء الرسمية منها أو البحثية الأكاديمية كانت في كيفية تحقيق المصالحة بين التكنولوجيا والايدولوجيا بما يساهم في تأطير الخطاب الإعلامي الصادر عن بعض المراكز الإعلامية وخصوصاً الفضائية منها في ما يوضع في دائرة بث الخطاب الديني المتطرف. وإذا كان الرأي الرسمي يجنح نحو العثور على "خشبة الخلاص" في "وثيقة مبادئ تنظيم البث الفضائي" الصادرة عن اجتماع وزراء الإعلام العرب في 12/2/2008 في القاعدة تحت عنوان واضح المضمون "هو مواجهة الفوضى وتنظيم البث الفضائي"، فإن المناقشات خصوصاً من جانب الإعلاميين والأكاديميين وجدت أن حل المشكلة لن يتم عبر هذا الميثاق الرسمي العربي، وإنما في تنفيذ سياسة طويلة المدى تتناول أسس الخطاب الأصولي من جهة وبناء المجتمعات من القاعدة الى القمة أي من الطفل الى الرجل الناضج، ومن جهة أخرى على تعميم الاطلاع ومحو الأمية ورفع مستوى الوعي داخل كل الشرائح المختلفة سواء في ظروفها ومنطلقاتها أو إمكاناتها.
ولا شك أن المواجهة صعبة ودقيقة مع هذا التباعد في الرؤى والحلول، خصوصاً وأن "العولمة" أدخلت الوطن العربي من المحيط إلى الخليج في قلب "إعصار" إعلامي قوته 520 قناة فضائية عربية وتنقسم هذه القنوات بين 130 قناة ذات البرمجة المتنوعة وقرابة 390 قناة متخصصة في جميع "الأصناف البرامجية". والطريف أن القنوات المتخصصة في الأخبار تحتل المرتبة الخامسة في حين المتخصصة بالموسيقى والمنوعات والفيديو كليب تحتل المرتبة الأولى بنسبة 26 في المئة.
الشاذلي القليبي الذي قدّم مداخلة مهمة في توصيف الوضع مع تجنب الدخول في تفاصيل "المواجهة وأدواتها" ركز على ما تقدمه "الوسائل الالكترونية من غابة هائلة فيها الأدغال والمخاطر على الشباب وآفات لا بد للمجتمع أن يعالجها باللطف الحكيم" ويكتمل هذا "اللطف الحكيم" بتذكير الإعلاميين العرب بأن "يتفادوا الشطط والمبالغة والتهويل واعتماد العرض الذي يدل على النضج الفكري".
بدوره فإن الدكتور الهادي مهنى الأمين العام للتجمع الدستوري الذي افتتح الندوة وأشرف على أعمال الندوة شدد من موقعه الرسمي على "الدور البارز للإعلام منذ وصول الرئيس زين العابدين بن علي الى الرئاسة وتنفيذه لسياسة التغيير في تثبيت دعائم المجتمع المدني ودفع الحوار بين القوى الوطنية وتعزيز الوفاق وقيم التضامن".
الاهمال والسلبية
الدكتورة الحلواني شددت على الخطر المتزايد في ظل الطفرة الهائلة للفضائيات على الصحافة المكتوبة خصوصاً مع انحسار القراءة لدى الشباب (مع ضرورة الإشارة إلى تزايد نسبة الأمية في العالم العربي)، ووجدت في نشر الحرية وتطبيق وثيقة البث الفضائي، رغم تناقضهما، ضرورة لمواجهة هذا الوضع.
المرأة والطفل والإعلام، احتلوا مكاناً مهماً سواء مع الدكتورة عبدالله التي بعد أن تساءلت حول تلبية مضمون الإعلام العربي لحاجة المرأة، بحيث يخدم قضاياها بما يمكنها من لعب دورها، رأت "أن صورة المرأة العربية في وسائل الإعلام سلبية، وهي لا تتعلق بجسدها وأدوارها التقليدية وإنما وهو الأخطر في مداركها الفعلية وقدراتها الذهنية ونشاطها الاقتصادي".
بدوره فإن بوخنوفة الذي حاول تحديد المعادلة التي تحكم أطفال العولمة والإعلام الموجه لهم، شدّد على "وجوب إعادة رسم دائرة المخاطر المحيطة بها عبر إعادة النظر في فلسفة الإعلام الموجه للطفل العربي. لكن هذه القراءة وهذه المطالبة بقيت عامة لأنها افتقدت منذ البداية تحديد الطفل العربي المقصود سواء من حيث سنه أو بيئته أو عائلته".
الندوة التي شكلت محاولة جادة وإن كانت صعبة، عملت عبر المناقشات على فتح كوة في الطروحات الرسمية للمساهمة في هذه المواجهة من جهة، وفي العثور على صيغة منتجة توفق بين الحرية وضمان أمن المجتمعات العربية من الهجمة الأصولية في كل مظاهرها الضيقة الميدانية والفكرية. ولذلك بدا غريباً بعض الشيء أن المثال البارز للإعلام هو في تبني صيغة القناة البريطانية "بي.بي.سي" التي "لا تخضع إلا للخدمة العامة والحرفية المهنية" من جهة وفي إنجاز آليات لضبط الخلل الحاصل في بعض الفضائيات مع إشراك القطاع الخاص في وضعها وصياغة الضوابط بعد أن جرى تغييبه عن وثيقة القاهرة الرسمية، مع العلم أن المطلوب أوسع وأشمل وهو إشراك الإعلاميين مباشرة في هذا العمل، الذي يبقى ميثاقاً وليس تشريعاً.
ندوة "الحرية" في تونس، نشطت في الإجابة على بعض الأسئلة الكثيرة لـ"تحديات العولمة على الإعلام". المهم ألا تبقى يتيمة وأن تتبعها ندوات ومناقشات تساهم في مواجهة هذا التحدي الذي يطال صلب بناء المستقبل العربي.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.