قبل أيام فقط، كان نفي دمشق القاطع لأي مباحثات مع إسرائيل، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، رسمية أو غير رسمية، مثل اللازمة الموسيقية. الآن، أخذت دمشق تتحدث علناً عن "معركة السلام الطويلة والصعبة والمعقّدة". لا شك أن هذه "المعركة" مصيرية، لأنها إذا انتهت بتوقيع اتفاقية سورية ـ إسرائيلية، ستكون خاتمة "الحروب" ونهاية للصراع والنزاع وللصمود والتصدي وللممانعة، وبداية لعصر جديد يشهد تغييرات جيوسياسية على مساحة منطقة الشرق الأوسط وجوارها.
أردوغان و"نوبل السلام"
لأصحاب الذاكرة الضعيفة أو الذين يستضعفون ذاكرة الآخرين، نقول ان مسلسل التفاوض بين دمشق وتل أبيب ليس وليد رغبة جديدة أو طارئة. المفاوضات بدأت في مطلع العام 2004، وبطلب مباشر لدمشق من رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان للتوسط في فتح قنوات الحوار. وقد نجح أردوغان في هذه المهمة الصعبة بما لتركيا من علاقات تقوم على الثقة مع الطرفين السوري والإسرائيلي معاً. في تموز 2006، ودائماً حسب "الرواية التركية" توقفت المباحثات السورية ـ الإسرائيلية ثم استؤنفت في أيلول 2006، بعد أن وضعت دمشق نتائج "حرب تموز" في "رصيدها". منذ 27 أيار الجاري، دخلت المباحثات مرحلة علنية جديدة، تبدأ بالخبراء وصولاً إلى القادة، وذلك بطلب إسرائيلي بعد أن قطعت المباحثات السابقة مرحلة متقدمة وصلت إلى حل 88 في المئة من القضايا على ذمّة الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر ومعظم المطلعين.
تركيا الغنية بالمياه تعمل على حل نقطة أدت إلى فشل مباحثات جنيف مع الرئيس الراحل حافظ الأسد. بدلاً من مياه الجولان التي تغطي 15 في المئة من احتياجات إسرائيل من المياه تمد تركيا سوريا بمياه السلام من نهري جيحان وسيحان، ومقابل ذلك تتخلى دمشق عن مياه الجولان، حتى ولو وضع الرئيس بشار الأسد رجليه في مياه بحيرة طبريا كما كان يريد الرئيس الراحل حافظ الأسد. وما نقله كارتر يؤكد صحة العرض، إذ قال ان وزير الخارجية وليد المعلم قال له مباشرة: "إذا اعطتنا تركيا المياه فيمكن ترك مياه الجولان بعد استعادته لإسرائيل".
تصديق هذا التحديد الدقيق لتقدم المفاوضات ليس واجباً، لكن من قواعد الواقعية السياسية الأخذ به والبناء عليه. أمام "مفاوضات معقّدة وطويلة" تتناول نزاعاً تاريخياً متعدد الأطراف والمصائر، السؤال عن مضمون القسم الغارق في المياه من جبل الجليد لأن مثل هذه المفاوضات لا يمكن أن تكون محصورة فقط باستعادة سوريا الجولان. مثل هذه المفاوضات لا بد أن تكون حول "سلة متكاملة"، لكل طرف ما يطالب به وما يطلب منه.
تل أبيب تبدو أكثر صراحة في ما تطالب به لأنها ليست محشورة مثل دمشق مع حلفائها وأنصارها. تل أبيب تريد بوضوح كامل:
* ابعاد رئيس المكتب السياسي في حركة "حماس" خالد مشعل من دمشق. وهذا الطلب ليس أكثر من عنوان عريض. تفاصيل الطلب تتضمن قطع دمشق لعلاقاتها مع "حركة حماس". أوضح من ذلك تغيير التوجه السوري في التعامل مع القضية الفلسطينية، أي في دعم فصائل المعارضة العشرة في إطار سياسة الممانعة والمقاومة.
* قطع التعاون العسكري مع "حزب الله" بما يعني ذلك من تغيير استراتيجي يتناول "الساحة اللبنانية"، لأن علاقة "حزب الله" مع دمشق ليست فكرية ولا تنظيمية.
* قطع العلاقات العسكرية مع طهران، مع القبول بالتعاون الاقتصادي والسياسي. أي باختصار أيضاً فك التحالف السوري ـ الإيراني، لأنه لن يكون مفهوماً استمرار الدعم الإيراني اقتصادياً لسوريا في وقت تتخلى فيه عن "حزب الله" والتعاون العسكري معها، الذي يبقى احتياطاً استراتيجياً لطهران في أي مواجهة محتملة مع واشنطن.
مطالب صعبة ولكن غير مستحيلة
بالمبدأ تلبية دمشق لهذه "السلة الإسرائيلية من الطلبات" يبدو صعباً جداً. تنفيذ دمشق هذه المطالب، يعني انها "ستقلع جلدها" ولا تعود دمشق التي عرفها العرب وعايشوها منذ أربعين سنة. ولذلك يبدو السؤال عن "السلة السورية" طبيعياً جداً. الحكمة الأولى في المفاوضات تعني حكماً "خذ وطالب". ودمشق تطالب سراً أو علانية.
* أن تكون واشنطن "الخيمة" التي تجري المفاوضات والتوقيع على نتائجها تحتها، وهذا كما هو واضح جداً لن يجري في الأشهر الأخيرة لولاية الرئيس جورج بوش، أولاً لأنه لا يريد ذلك مثلما انه لم يقبل أصلاً بالمفاوضات السورية ـ الإسرائيلية لأنه لا يريد أن يرفع الضغط عن دمشق التي "أتعبته" مع شريكتها "طهران" في العراق ولبنان بوسائل كثيرة ومتعددة أصبحت أكثر من معروفة مما انعكس على موقعه الشخصي في تاريخ الرؤساء الأميركيين. ولذلك كله يجب انتظار الحسم مع مطلع ربيع 2009، حيث يمكن أن تنتقل المفاوضات من الخبراء والمستويات السياسية المنخفضة الى السياسيين والقادة، وثانياً لأنه من الأفضل التعامل مع رئيس قادم بدلاً من رئيس راحل.
* معرفة مسار المحكمة ذات الطابع الدولي الخاصة باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه، خصوصاً وان ذلك يعني مباشرة النظام كله، وهل يمكن ان تكون محكمة بلا محاكمة، أو محكمة على طريقة لوكربي الليبية، أو أكثر من ذلك بحيث تكون "الفدية" صعبة ولكنها ليست مستحيلة.
* مستقبل علاقاتها مع لبنان وبلبنان. لأن لبنان واستعادة بعضه سياسياً واقتصادياً وأمنياً يبقى الهدف الأكثر إلحاحاً لدمشق.
* كيف ستدعم اسرائيل مستقبلاً وإذا ما حصل السلام، دمشق في واشنطن وكل المواقع المالية الدولية للحصول على هبات ومساعدات مالية ببلايين الدولارات لاطلاق عجلة التنمية في سوريا؟.
اسرائيل التي أمضت 41 عاماً وهي تنام على "حرير" الهدوء والاستقرار في الجولان، مما سمح لها ببناء مستوطنات ومزارع ومصانع ومضخات مائية ضخمة، لن تتنازل عن ذلك بدون اتفاق وضمانات تجعل ثمن السلام مقبولاً لها.
طبعاً، مجرد ان تتنازل دمشق عن موقعها التاريخي في الصراع الطويل مع اسرائيل، يعني ان الاسرائيليين ربحوا الحرب والسلام. الحرب، عندما عقدوا اتفاقية "كامب دايفيد" على مصر، فكانت تلك الاتفاقية نهاية لحرب عربية شاملة ضد اسرائيل لكون مصر هي "مفتاح" الحرب، أما السلام فلكون دمشق هي مفتاح السلام.
أهم وأخطر من كل ذلك ان اسرائيل المتحررة من المواجهة المحتملة مع سوريا، والضامنة لقطع دمشق "وريد" الامداد "لحزب الله" والدعم لحركة حماس، يعني انها ستتفرغ بهدوء كامل للتعامل مع الفلسطينيين المحاصرين بين البحر والنهر.
ويبقى، هل دمشق جدية في التوصل الى اتفاقية شاملة مع اسرائيل؟، وما هو الثمن الفعلي لهذه الاتفاقية؟، وكيف ستواجه دمشق وتتواجه مع طهران و"حزب الله"، و"حركة حماس"، ومعها كل العلاقة التاريخية مع القضية الفلسطينية. لهذا كله صلة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.