تكاد كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية، تتفوق على سلفها القديم هنري كيسنجر في عدد الجولات التي قامت بها إلى منطقة الشرق الأوسط، وحدهما فلسطين وإسرائيل نالتا من جدول هذه الرحلات المكوكية 15 رحلة في عامين. رغم هذا الرقم الضخم، فإن الفارق كبير جداً. المحصلة تبقى مخيبة لأن النتائج تكاد تكون كما بدأت جامدة عند خط البداية، أي صفر.
هنري كيسنجر نجح خلال جولاته المكوكية في فك الاشتباك بين مصر وإسرائيل بعد مباحثات الكلم 1528، وفي النهاية التوقيع على اتفاقية كامب دايفيد من جهة، وبالتوصل مع الرئيس الراحل حافظ الأسد إلى فرض هذا الهدوء الشامل والكامل على الجولان والذي استمرت دمشق ملتزمة به مع الرئيس بشار الأسد.
لماذا نجح كيسنجر؟
فشل رايس ونجاح كيسنجر قد يعود إلى تغيّر الظروف وحتى قواعد اللعبة، لكن أيضاً، وهو مهم جداً، أن رايس بقيت بلا "خارطة طريق" لحركتها السياسية. في كل مرة، وصلت فيها إلى رام الله وتل أبيب، غرقت في مستنقع من التفاصيل الصغيرة أو الطارئة. وبدلاً من العمل على حل القضية التي تشكل مركز كل التطورات وحتى النزاعات، فإنها تعاملت معها وعينها على العراق وكيفية توظيف أي حل فلسطيني ـ إسرائيلي لخدمة تحقيق اختراق في العراق لمصلحة واشنطن. في النهاية لم تنجح في حل المشكلة العراقية ولا توصلت حتى إلى تحقيق تقدم يُذكر في المسار الفلسطيني ـ الإسرائيلي.
تل أبيب قررت منذ البداية، إغراق المفاوضات بـ"أمواج" متلاحقة من القرارات والممارسات الميدانية، سواء في إنجاز مزيد من الاستيطان أو تصعيد أمني جديد في الضفة وقطاع غزة، بحيث تبدأ المفاوضات والمباحثات من هذا الواقع الجديد وليس من حيث يجب، أي الأصل، وهو إقامة الدولة الفلسطينية بعد تحقيق الانسحاب الإسرائيلي.
والواقع أن إسرائيل غير مستعجلة على الحل في المسار الفلسطيني، لأنها سواء كانت بقيادة إيهود أولمرت أو ايهودا باراك أو بنيامين نتنياهو لا تريد أن تعطي ما يريده الفلسطينيون، وإنما أن تأخذ ما تريده هي وهو كثير جداً بحيث أن لا أحد سواء كان محمود عباس أو سلام فياض، فكيف بحركة حماس، قادر على إعطائها ما تريد، لأن معنى ذلك التسليم نهائياً لإسرائيل بالسلام من دون السيادة ولا قدرة حينها لهذه الدولة الفلسطينية المفترضة على العيش.
الفجوة واسعة جداً بين المطالب الفلسطينية والإسرائيلية، أكثر ما يمكن لرايس تحقيقه من الآن وحتى نهاية ولاية الرئيس جورج، متابعة العمل لايقاف مسار قتل عملية السلام. رايس تدرك جيداً حجم فشلها. ربما الوعد الذي أعلنته باسم الرئيس جورج بوش بإقامة دولة فلسطينية ليشكل "وعد بلفور" معاكساً للفلسطينيين يمكن التأسيس عليه والعمل على تحقيقه لاحقاً.
غزة الخاصرة الصعبة لمصر
الآن وقت التواضع. كل ما تأمل رايس تحقيقه: "تحسين الفرص لكي يحصل الناس (أي الفلسطينيون) على فرصة اقتصادية في بيئة آمنة". وهذا "التواضع" يتقاطع حكماً مع ما طالب به سلام فياض وهو "تغيير جوهري في السلوك الأمني الإسرائيلي، خصوصاً في وقف الاجتياحات العسكرية".
هذا "الإنجاز" يتحقق بوقف الاستيطان، الذي يهدف عملياً إلى حشر الفلسطينيين في "معازل"، ورفع الحواجز الأمنية المتكاثرة التي أصبح عددها 600 حاجز حتى الآن، والتي كلما رفع عدد منها نصبت أعداد مكانها كما يحصل مع الأسرى الذين كلما أطلق العشرات منهم يتم أسر المئات. والهدف واضح.. إغراق الفلسطينيين في حالة من اليأس الكامل للتسليم بأي حل معروض، وهو ما لن يحصل.
طبعاً، إسرائيل تتحسب جيداً لقدرة الفلسطينيين على الصمود. لذلك تريد وتعمل على تسريع "المسار السوري"، لقطع المسار الفلسطيني، على أمل إنجاز الحل مع دمشق وترك الفلسطينيين وحدهم محاصرين بين البحر والنهر. إسرائيل تعرف جيداً أن انفصال المسارين السوري والفلسطيني يشكل مقتلاً للمسار الثاني. لذلك تعرض "فتات" الجولان للحصول على "جائزة" إدخال المسار الفلسطيني في حال "الوفاة السريرية".
أمام هذا المأزق الذي يؤزّم المنطقة بما فيها مصر طبعاً، يجري العمل على حل موقت ينتج التهدئة، حتى يمكن التفاوض بين "أقوياء" قادرين على إنتاج حل وتنفيذه.
غزة هي "الخاصرة الضعيفة" لمصر وهي "متزاوجة" مع "أمنها القومي". لذلك تعمل مصر على تحقيق اتفاق يؤدي إلى "تهدئة شاملة ومتزامنة ومتبادلة.. وأن يكون تنفيذها متدرجاً يبدأ في غزة ثم ينتقل إلى الضفة".
القاهرة تعرف جيداً أن إسرائيل تريد "غزة كرة نار" بين يديها من جهة، وهي تسعى مباشرة إلى "تحقيق الفصل الكامل بين غزة والضفة الغربية" من جهة أخرى، أيضاً إسرائيل تؤكد على شراكة مصر في الحل الذي يعنيها مباشرة وفي الوقت نفسه تعمل على أساس "أن الطريق إلى الحل في غزة يمر عبر دمشق"، خصوصاً وأن موافقة "حماس" على التهدئة جاءت من دمشق التي قدمت بادرة حسن نية باتجاه تل أبيب على طريق تنشيط المسار السوري الإسرائيلي.
التهدئة في غزة أولاً، والضفة تالياً، يفرض مساراً مهماً في المنطقة لا بد أن يطال باقي الأزمات ومنها لبنان.
طالما أن الحلول غير مدرجة على الأجندة من واشنطن إلى تل أبيب مروراً بدمشق وطهران، والحرب مكلفة جداً ولن تكون أيضاً حاسمة، من الطبيعي إبقاء الأزمات في المنطقة على "نار هادئة"، حتى معرفة المسار السياسي للإدارة الأميركية القادمة في الولايات المتحدة الأميركية.
مشكلة العرب كما يقول زبغنيو بريجنسكي وزير الخارجية الأميركي الأسبق "أنهم لا يريدون التفاوض ولا يستعدون للحرب". هذا التوصيف الوجه المرئي "للقمر"، الوجه الآخر "أن إسرائيل تستعد للحرب وتفاوض للتفاوض وليس للحل".
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.