اتفاق ساعات الفجر الأخيرة في الدوحة بعد التشاؤم الكبير من وقوع الفشل واستتباعاته الكارثية على شوارع بيروت وأزقتها وهضاب الجبل وقراه، يؤكد أن "قطبة" مخفية قد حصلت. ومن الطبيعي أن يعمل جميع من يهمه هذا الاتفاق ـ الصلح، على إعادة قراءة الأحداث قبل 7 أيار وبعدها، لمحاولة فكفكة خيوط تلك "القطبة" لعل ذلك يساهم في التهيّؤ لمواجهة التطورات التي لا بد أن تقع والتي لا بد أن تحمل معها استحقاقات جديدة وتغييرات تساهم جدياً في إعادة تشكيل خريطة سياسية جديدة على مساحة لبنان من جهة وفي كامل منطقة الشرق الأوسط.
الترابط القائم بين ملفات "قوس الأزمات" الممتدة من أفغانستان إلى تركيا معترف به، لأنه واقع سياسي خصوصاً منذ العام 2001 ومن ثمّ الغزو الأميركي للعراق. وما قاله عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية حول الأزمة اللبنانية واختصارها بمبنى بأربعة طوابق صحيح مئة بالمئة. أكثر من ذلك يوجد إقرار كامل بوجود "زواج كاثوليكي" لا طلاق فيه بين الداخل اللبناني والخارج العربي والاقليمي والدولي.
لذلك لا يمكن حصر المسؤولية بالقوى والأطراف اللبنانية كما انه لا يمكن نزع مسؤولية هذه القوى، لأن لا أحد بريء في لعبة المصائر والمصالح. لكن أيضاً وبالنسبة ذاتها أو أكثر لا يمكن مطلقاً نزع علاقة قوى الخارج بالأزمة اللبنانية، واستخدام لبنان "ساحة" مفتوحة للمواجهة بالواسطة لتحقيق إصابات ترفع من رصيد هذا الطرف أو ذاك.
من بين كل ما قيل ويقال حول حقيقة ما جرى في 7 أيار وصولاً إلى التوقيع على "صلح الدوحة"، فإن الأضواء تتجه هذه المرة نحو طهران، خصوصاً وأن معظم خيوط الأزمة تتقاطع عندها.
فتش عن العراق
في الفترة الأخيرة "تراجعت علاقات الحد الأدنى بين الجمهورية الاسلامية في إيران والولايات المتحدة الأميركية، وخصوصاً حول تفاوضهما الأمني والسياسي بكل ما يتعلق بالعراق". ويبدو ان "انتفاضة" "جيش ـ المهدي" بقيادة السيد مقتدى الصدر، كانت موجهة أساساً للسيطرة الكاملة على البصرة بكل ما يعني ذلك الامساك بقوة بجزء أساسي ومؤثر من قرار النفط والأهم ان دخان هذا الهدف الضخم سيشكل شبكة دخان تخفي هدفاً استراتيجياً لطهران وهو الامساك عسكرياً بمرفأ البصرة مع ما يعني ذلك من مكاسب استراتيجية لهذا الموقع الحساس. لكن وكما ثبت ان السيد مقتدى الصدر لا يحارب كما يجب، ولا يفاوض كما هو مطلوب. فكانت هزيمته التي امتدت إلى معاقله في مدينة الصدر في بغداد.
هذه الضربة القاسية تزاوجت مع حدثين: الأول تقدم المفاوضات السورية ـ الاسرائيلية والثابتة مع قراري الحكومة اللبنانية المتعلقين بشبكة الاتصالات "فايبر أوبتيك" وتنحية العقيد وفيق شقير بعد كشف كاميرا المطار، مما جعل "حزب الله" يقع في شباك الاحساس بالخطر المباشر على سلاحه ووجوده ليسقط بعدها كل المحرمات.
مهما كابرت طهران ومعها "حزب الله" ايضاً، فإن المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية التي بقيت غير مباشرة لكن علنية ورسمية برعاية تركيا (التي تتقدم في موقعها ودورها لتوازي في أهميتها إيران التي مضى على وجودها وجهودها ثلاثة عقود)، انتجت قلقاً واضحاً أكده صمت "حزب الله" عن كل ما يجري من جهة ومحاولة إيران التخفيف من أهميته مشدّدة على ضرورة "الشفافية وغياب الشروط في تلك المفاوضات"، مع ان طهران تعرف أكثر من غيرها استحالة ذلك، فعماد أي مفاوضات السرية ثم السرية. ولذلك فإن طهران و"حزب الله" كانا يريدان الحصول على ضمانة بعدم وقوعهما ضحية مفاجأة سورية ضخمة تقلب كل المعادلات خصوصاً وأن أبرز المطالب الإسرائيلية ـ الأميركية فك التحالف مع إيران ورأس "حزب الله". فكان "لا بد من ضربة وقائية أو استباقية تؤكد على استقلالية الحزب وقدرته على الإمساك بالقرار في لبنان لمصلحة بقائه وسلامته".
النجاح العسكري لا يكفي
سقوط المحرمات انتج اجتياح بيروت بساعات وتحت شعار إجراء "عملية نظيفة بالناضور أو الليزر" أي عدم وقوع خسائر بشرية ومادية ملحوظة. وقد نفذ ذلك كما هو مخطط. لكن ليس النجاح العسكري وحده هو الذي يصوغ النتائج السياسية خصوصاً في بلد مثل لبنان بلد الطوائف والذي يعيش منذ أكثر من سنة ونصف في حالة حرب أهلية باردة وعلى حافة الانهيار في قلب دائرة نار "العرقنة".
لم يطلع الصباح على "العملية بالليزر"، حتى ظهرت نتائج عملية الجبل التي أثارت كل ارهاصات الخوف والحذر وانعدام الثقة الدفينة أو الحديثة والمستحدثة. فكان خروج "جني" الفتنة المذهبية السنّية ـ الشيعية هو الأضخم والأخطر. فالناس العاديون كانوا يتساءلون عن "وظيفة" سلاح المقاومة بعد التحرير، فإذا بهم يستيقظون على طلقاته في شوارع بيروت وأزقتها. ومهما كانت الحجج التي قدمت ومهما جرى الاكثار من الحديث عن "نظافة" هذا السلاح فإن ما وقع وقع، وعليه يمكن بناء وقائع وأساطير في وقت واحد كلها لا تصب في "طاحونة" المصلحة العليا للمقاومة.
طهران التقطت بسرعة نذر هذا الانقلاب المذهبي وحضور الفتنة التي لا تريدها لأسباب تتعلق أساساً بالأمن الاستراتيجي لإيران وحفاظاً منها على حليفها "حزب الله" وسلاحه، خصوصاً وأن قوى عديدة معظمها جاء من "القاطرة الدمشقية" عمدت إلى التصعيد غير المطلوب بقصد اطالة الأزمة والنار.
تطورات عربية أهم وأخطر وقعت أدت إلى تحول أساسي في الموقف الإيراني، ذلك أن الاستياء السعودي ـ المصري كما تقول بعض المصادر وصل إلى الذروة، بحيث ان تصريح الأمير سعود الفيصل الذي وصفه الرئيس احمدي نجاد "بلحظة غضب" شكل إطاراً خارجياً للموقف السعودي المتصلّب. وتقول تلك المصادر ان الأمر وصل إلى درجة "التهديد" برفع الضوء الأحمر الذي اضاءته ضد أي عملية أميركية لضرب إيران، إذ لا يمكن التعامل مع سياسة "القضم" بسياسة التهدئة والحذر. وقد التقطت طهران "الرسالة" فسارعت إلى ايفاد "المحاور البارع" الشيخ هاشمي رفسنجاني إلى الرياض لتهدئة الغضب السعودي وللاتفاق على الحل في الدوحة بحيث يكون برعاية سعودية ـ مصرية ـ إيرانية عبر دور منتج لقطر وأميرها.
هذا التوافق هو الذي انتج في الساعات الأخيرة الاقتراحان والطلب اما بقبول احدهما أو رفضهما كما هما بدون تعديل ولا تقديم ولا تأخير. وبذلك وقع "الصلح" وأنتج هذا الاتفاق الذي لا بد لكي يتدعم ويقوى انتظار التغيّرات الإقليمية والدولية معاً مع بداية ربيع 2009.
على الأقل سينعم اللبنانيون السباقون إلى الحرب وإلى الحياة بصيفية هادئة على ضفاف أزمات تغلي.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.