انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وابتعاد لبنان خطوة الى الوراء عن أتون الحرب الأهلية، الذي بانت نيرانه عالية يوم 7 أيار، "أراح" باريس، وطمأنها بما يكفي الى ان لا شيء مستحيلاً في لبنان. وهي اذ ترحب "ترحيباً شديداً بالرئيس المنتخب العماد ميشال سليمان فإنها ترى في خطابه حجم المشاكل التي ستعترضه. بعد هذه القناعة، تعود باريس الى التعامل مع الملف اللبناني وافرازاته بعد "اتفاق الدوحة"، "بعقل بارد"، وخصوصاً أن كل الملفات في الشرق الأوسط متداخلة.
"اتفاق الدوحة" برغم انجازه الكبير كما ترى باريس "ليس كل الحل بل هو جزء من الحل". وتعود هذه الرؤية الفرنسية الى ان الاتفاق نفسه "قابل للتعطيل"، وأمامه مطبات كثيرة وامتحانات أكثر على مدى الفترة الحساسة والدقيقة الفاصلة مع الانتخابات التشريعية المقبلة.
مطب الاختراقات الأمنية
من هذه المطبات أو العقد التي قد "تعطل" اتفاق الدوحة مسألتان:
* تشكيل الحكومة الجديدة، لأنه يمكن تعطيل تشكيلها بسرعة بألف حُجة وحجة، أو على الأقل تأخير تشكيلها بما يكفي لوضع اتفاق الدوحة على "حافة السكين".
* "الاختراقات الأمنية المحتملة"، التي يمكن ان تشكل منفذاً لعبور كل أنواع "الجنون" الذي يميز لبنان واللبنانيين في تعاملهم مع الأحداث الطارئة أو حتى المتوقعة.
من الطبيعي أيضاً لكل من تابع مسار الوصول الى صياغة "اتفاق الدوحة"، وجود "بصمات" طهران ودمشق فيه. ولذلك فإن القراءة "بعقل بارد" تتداخل فيها المواقف السابقة والمسبقة بالمصالح القديمة والطارئة.
طهران برأي باريس تكثف من حركتها السياسية والديبلوماسية بكل الاتجاهات وبكل ما يعني الملفات الساخنة المتداخلة مع مواقفها سواء في العراق أو غزة وفلسطين ولبنان. ولذلك فإن طهران تعمل برأي باريس على توسيع النافذة التي عملت لفتحها في لبنان، في اطار سياستها الحالية في تكثيف أوراقها، والعمل للتحكم أكثرَ فأكثرَ في كل هذه الأوراق ـ النزاعات حتى تقوي موقعها التفاوضي على سلة متكاملة أساسها الملف النووي مع الادارة الأميركية المنتخبة.
دمشق و"الاتحاد المتوسطي"
أما بالنسبة لدمشق، فإن باريس تبدو "ممزقة" بين رغبتها الشديدة في "اعادة تطبيع علاقاتها معها"، وبين "عدم الاسراع في حرق المراحل خصوصاً وانه يجب الحذر والمثابرة في متابعة تطبيق الاتفاق وما اذا كانت دمشق ستتابع تنفيذ كلامها بأفعال تؤكد نيتها السليمة". وهذه المتابعة ليست صعبة، لأن متابعة الوضع الميداني في لبنان سهل مع ملاحقة تحرك القوى التي تربطها علاقات وثيقة مع دمشق.
هذا التردد تترجمه باريس بالاعتراف بأن التطورات الأخيرة في لبنان وخصوصاً التوافق على اتفاق الطائف قد "خلف واقعاً جديداً يجب اخذه بالاعتبار". ولذلك كله فإنه كلما تقدمت دمشق بأعمالها "خطوة" في لبنان أمكن بشكل أسرع "فك الارتباط بين الملفين اللبناني والسوري"، وبالتالي التعامل مع دمشق من زاوية العلاقات الفرنسية ـ السورية فقط وليس من خلال الزاوية اللبنانية، حتى الآن. مما سيحقق لدمشق مكاسب اقتصادية بارزة ليس على المستوى الفرنسي وحده وانما على المستوى الأوروبي. ويعزز ذلك ان باريس التي سترأس الاتحاد الأوروبي في مطلع تموز المقبل ستجد الى جانب حماستها لتطبيع علاقاتها مع دمشق وتنمية التعاون الاقتصادي معها أصواتاً أوروبية عديدة من ألمانيا الى اسبانيا، مؤيدة لهذا التوجه.
وتشير باريس الى أن دمشق لم تلعب هذا "الدور الايجابي" في الدوحة لو لم تقع تشكيلات وتوازنات مهمة في دمشق مؤخراً، والتي قوّت موقع الرئيس بشار الأسد، وبالتالي يجب دعم هذه التوجهات، دون الدخول في تفاصيلها حالياً.
ايجابية واحدة لا تكفي
لكن بعيداً عن كل التبريرات حول الدور الايجابي لدمشق في انجاز "اتفاق الدوحة" وبالتالي "تغير سلوكها" كما كان مطلوباً من دمشق باتجاه تطبيع العلاقات بسرعة أم بحذر فإن الحقيقة تكمن في مكان آخر. الرئيس نيكولا ساركوزي الذي وضع رهاناً كبيراً يريد تحقيقه خلال ولايته التي انتهت منها سنة كاملة دون تحقيق أي شيء. هذا الرهان هو في اقامة "الاتحاد المتوسطي" الذي يجب أن يضم دول الاتحاد الأوروبي كلها وليس الموجودة على الضفة الشمالية لحوض البحر الأبيض المتوسط مع جميع الدول الموجودة على الضفة الجنوبية من الحوض والتي تضم الدول العربية وأيضاً اسرائيل.
الامتحان الأول الذي سيواجهه هذا الرهان هو في 13 تموز المقبل وبعد ان يكون قد تسلم الرئيس نيكولا ساركوزي الرئاسة الأوروبية، عقد المؤتمر الأول لهذه الدول على طريق انشاء "الاتحاد المتوسطي". ويرى الرئيس الفرنسي أن مشاركة دمشق وتحديداً الرئيس بشار الأسد في هذا المؤتمر ضرورية جداً لإنجاح مشروعه. لذلك فإن العلاقات بين باريس ودمشق ستأخذ مساراً جديداً تكثف خلالها الاتصالات واللقاءات خصوصاً طوال شهر حزيران المقبل والفاصل عن موعد المؤتمر الحاسم.
ويبدو ان آمال ساركوزي تزداد يومياً بمشاركة دمشق أولاً في هذا المؤتمر ومن ثم الى الاتحاد المتوسطي وخصوصاً ان "اللغم" الكبير الذي يعقد هذا الانجاز هو العلاقات السورية ـ الاسرائيلية. وطالما المفاوضات قد تقدمت وتتقدم فإن التحفظ السوري سيتراجع. وبذلك فإن "الاتحاد المتوسطي" يمكن ان يتحقق مستقبلاً كما يطمح ساركوزي الى انجاز عملية تطبيع عربية ـ اسرائيلية، ليكون هو "بطلها".
المهم قبل الأهم بالنسبة لباريس، لهذا فإن العمل لإخراج "اتفاق الدوحة" من حالته "الهشة" الحالية الى حالة أكثر قوة وتماسكاً للنجاح في مواجهة الاستحقاقات القادمة يبدو أساساً لباريس. لأن أي سقوط للبنان من جديد يصيب كل "طموحات" باريس سواء باتجاه لبنان ورؤيته مستقراً أو علاقاتها مع دمشق بالصميم.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.