8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

باريس تسارع للتطبيع مع دمشق دعماً لاعتدالها باتجاه إسرائيل و"اتفاق الدوحة"

ليست فرنسا بحاجة إلى هذه الزيارة ـ التظاهرة للرئيس نيكولا ساركوزي والوفد الكبير والمتنوع الذي يرافقه اليوم إلى بيروت، لتأكيد عمق علاقاتها وعطفها وتعاطفها مع لبنان واللبنانيين. هذه العلاقات تاريخية وشعبية وثابتة. ساركوزي الرئيس المستعجل في كل شيء يريد توجيه "رسالة" إلى الجميع بأن لبنان دخل على مسار التهدئة والحل، وأن ذلك يلقى دعماً دولياً واسعاً وغير مشروط، وأن المجتمع الدولي سيتابع بفعالية هذا المسار.
العنوان الآخر "للرسالة" وهو فرنسي بحت لكنه لا يقل أهمية عن العنوان الثاني، يخص دمشق. ذلك ان ساركوزي يريد الدخول بقوة واطمئنان إلى دمشق عبر البوابة اللبنانية على أساس الفصل بين ملفي العلاقات مع لبنان ودمشق.
ذلك أن التأكيد على دخول لبنان مسار التهدئة والحل يعفي ساركوزي نهائياً من عملية الربط بين الملفين، مما يجعل يده طليقة لاحداث "تطبيع كامل" مع دمشق، وكل هذا لأن ساركوزي يراهن "بكل ما ملكت يمينه" لانجاح مشروعه بإقامة "الاتحاد المتوسطي". وربما الشرط البارز برأي ساركوزي هو مشاركة دمشق بشخص الرئيس بشار الأسد في المؤتمر التأسيسي الذي سيعقد في باريس في 13 و14 تموز، لكي يصبح الاحتفال بعيد 14 تموز احتفالاً مزدوجاً ومتكاملاً مع الإعلان عن نجاحه الدولي. ولا شك ان أي صورة تجمع زعماء عرب من بينهم الرئيس بشار الاسد وايهود اولمرت ولو كانت صورة بروتوكولية، ستدخله التاريخ، وستحسن أسهمه في البورصة الشعبية التي يعاني من انهيارها رغم انه لم يمض على ولايته أكثر من أسابيع بعد السنة الأولى.
"الاتحاد المتوسطي" أولاً
الديبلوماسية الفرنسية، التي حسب الدستور يرسم "خريطة طريق عملها" رئيس الجمهورية، من واجبها توظيف كل قدراتها ومعلوماتها لإنجاح السياسة الساركوزية.
ومن أجل تبرير عجلة الرئيس الفرنسي ومسارعته لاحراق المراحل للتطبيع مع دمشق، تشدّد هذه الديبلوماسية على "أن تحولاً سورياً جدياً قد حصل مؤخراً، وأن أبرز خطوات هذا التحول باتجاه الاعتدال، هذه الدورة الكاملة لسياسة دمشق باتجاه لبنان وانه لولا هذا التحول لما نجح مؤتمر الدوحة ولما انتخب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية".
وترى أوساط فرنسية مطلعة، أن هذا الاعتدال لم يكن ليحصل لولا التغير في ميزان القوى داخل مثلث السلطة في دمشق لمصلحة الرئيس بشار الأسد وسياسته المعتدلة، وانه بالتالي من المفروض دعم هذا الاعتدال وتثبيته وبالتالي استثماره بفعالية وسرعة حيثما يمكن وخصوصاً في لبنان".
ولا يقف اعتدال الأسد الحاسم باتجاه لبنان، وانما يتجاوز كل شيء مع "المفاوضات الجدية" مع إسرائيل ولعل أهم مظهر "لجدية هذا المسار ان دمشق تخلت عن العقدة السياسية التي لازمتها بكل ما يتعلق بإسرائيل. ايضاً ان مشاركة الاسد في المؤتمر التأسيسي للاتحاد المتوسطي في باريس التي ستجمعه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود اولمرت (في أقل الاحتمالات سيكون وزير الخارجية السوري وليد المعلم حاضراً) أبرز خطوة لهذه السياسة الواقعية والمعتدلة".
وتتابع هذه المصادر الفرنسية، "أن للاعتدال السوري اثاراً عميقة واستراتيجية على المدى الطويل. صحيح أن دمشق لن تتجه نحو الطلاق مع طهران، لكن تحولاً أساسياً بدأ يحدث على خط هذه العلاقات وهو منذ 7 أيار في بيروت وقبله منذ البدء بتصفية "جيش المهدي" والعمل على إلغاء مقتدى الصدر يؤكد ذلك".
الحلف الاستراتيجي الذي قام مع بداية الثورة في إيران مع دمشق، "ارتكز على حجر زاوية أساسي وهو العداء والخوف من العراق القوي والغني عسكرياً وسياسياً".
وقد نجحت دمشق في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد في استثمار تلك العلاقة إلى أقصى ما يمكنها. الآن بدأت رياح التغيير تهب على هذه العلاقة، انطلاقاً من العراق نفسه.
العراق واسطة العقد
العراق أصبح الآن "ساحة للتنافس على النفوذ بين دمشق وطهران، وذلك بعدما لم يعد يشكل تهديداً لهما". والتنافس القائم حالياً لا بد أن يحتد مستقبلاً، ذلك أن دمشق "لا يمكنها تحمّل عراق ـ فارسي لا يخدم العروبة التي تنادي بها ولو شعاراً التزاماً منها بخط حزب البعث الحاكم". كما أن دمشق تعرف جيداً، انه لا يمكنها مزاحمة ولا منافسة طهران في العراق بدون العودة بطريقة أو أخرى إلى "الحضن العربي"، فهي لا تملك المال الذي تملكه طهران ولا النفوذ الذي تحوزه خصوصاً في الجنوب الشيعي، ومما زاد من مخاوف دمشق أن التصفية السياسية لمقتدى الصدر العربي التوجه والتصفية العسكرية "لجيش المهدي"، قد أقلقها كثيراً، كما ان دمشق تعلم جيداً انها وأن تظاهرت كثيراً بان لها نفوذاً قوياً في الشمال فان الجميع يعرف حقيقة حدود هذا النفوذ لدى الأكراد والسنّة على السواء".
هذا التغيير في العلاقة الإيرانية ـ السورية، بكل ما يتعلق بالعراق، ليس يتيماً. ما يحصل أيضاً في لبنان يشكل جزءاً من هذا التحول وأبرز معالمه ان لبنان ايضاً سيتحول إلى ساحة للتنافس. دمشق التي كانت وما زالت تعتبر "أن لبنان أولاً والجولان ثانياً، لا يمكنها تحمل شراكة في القرار المتعلق بلبنان حتى ولو كانت طهران هي الشريكة، التي بدعمها الضخم "لحزب الله" سمحت لها بتحقيق توازن استراتيجي بشكل ما مع إسرائيل وهو توازن طالما نادت به طوال ثلاثة عقود ولم تنجح في تحقيقه، من جهة، وبدعمها المادي الضخم لإعادة تسليح الجيش السوري وتأهيله من جهة أخرى.
دمشق وهي تتفاوض حالياً مع تل أبيب، تعرف جيداً كما تدرك طهران ذلك، أن المرحلة النهائية من المفاوضات سواء وقعت الآن أو غداً، ستشهد تفاوضاً على موقع "حزب الله" ومستقبله. وإذا كانت قوة "حزب الله" حتى الآن قد شكلت مصدر قوة لدمشق، فان قوته مستقبلاً خصوصاً في مرحلة التنافس مع طهران ليست في مصلحة دمشق. ولذلك أيضاً من مصلحة دمشق تنفيذ سياسة تربك "الحزب" وتقيده منذ الآن. ولذلك أيضاً إذا كانت طهران قد ارتاحت ووافقت على هجوم "حزب الله" على بيروت والإمساك بشوارعها في ساعات، فانها بعد ذلك أرادت إعادة الأمور إلى نصابها أي متابعة دوره في بيئة هادئة ومستقرة، وهو ما فشلت به، لانها لم تتنبه إلى التركيبة المذهبية السريعة الاشتعال ومقدرة دمشق على الاستثمار السريع والطويل الأجل لنتائج ما حدث، لأن مصلحتها فوق كل مصلحة.
أخيراً يجب الانتباه بقوة وتدقيق إلى الساحة الفلسطينية، فقد حافظت دمشق طويلاً على انفرادها في إدارة كل ما يتعلق بها. ومجرد أن يتمدد نفوذ طهران إلى الداخل الفلسطيني على وقع المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية، يعني أن خللاً قد وقع لا يمكن لدمشق قبوله ولا تقبله، مما يفرض عاجلاً أم آجلاً تحركاً سورياً لايقاف هذا التمدد الإيراني عند حده.
هكذا قراءة عقلانية هادئة وباردة للوضع في لبنان وللعلاقة السورية ـ الإيرانية، مهمة وقد تكون ضرورية.
المشكلة أن الشرق لا يحكمه العقل ولا المنطق فقط. لذا يجب ملاحقة وجهة الرياح الوافدة عليه أولاً ومن ثم التقلّبات العاطفية فيه التي تقلب كل التحالفات عندئذ تصبح القراءة دون تعجل قيمتها أكثر واقعية ومنتجة أكثر.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00