لم يكد يمضي عام واحد على كارثة "مخيم نهر البارد"، حتى تبين أن الجرح المفتوح في المخيم ما زال شعبياً مفتوحاً، وأن مخيم "عين الحلوة" أكبر المخيمات، يهدّد لبنان وبطبيعة الحال الفلسطينيين بكارثة أكبر.
هذه "الكارثة" المرفوضة لبنانياً وفلسطينياً معاً، تبقى قائمة، لأن النار تحت الرماد، يكفي بعض "الرياح" الطارئة حتى يتصاعد اللهب. هذا الخطر ليس جديداً. فقد سبق أن وقعت حوادث متفرقة ايقظت المخاوف وكل الاخطار، ثم تراجعت بفعل تحركات لبنانية ـ فلسطينية سريعة وفعّالة أثمرت بعض الهدوء.
حالة مخيم "عين الحلوة" حالياً، التي يعمل اللبنانيون والفلسطينيون على معالجتها، ناتجة عن العملية المتعمدة لإضعاف حركة "فتح" سواء كان ذلك بفعل الخلافات والمنافسات الداخلية أو بسبب نشاط النظام الأمني ـ السياسي طوال العقود الماضية. وقد ادت تلك السياسة إلى تراجع حضور حركة "فتح" على جميع الصعد وخصوصاً العسكريّ منها، حيث لهذا الحضور كلمة أساسية في حسم الوضع.
خلل التوازن العسكري الناتج عن تراجع "حركة فتح" لم يصب في "طاحونة" القوى اليسارية ولا حتى في "طاحونة" "حركة حماس" التي لم تعمل كما يبدو على الدفع بجناحها العسكري نحو الجاهزية بالرجال والعتاد مكتفية بالانتشار في الجانب الاجتماعي والتثقيفي إلى حين، الآن القوى الإسلامية المتطرّفة هي المنتشرة والمتحكمة بسلاحها بأمن "عين الحلوة".
احذروا "الغرباء"
التهمة المباشرة، التي يكمن فيها رفع للمسؤولية موجهة إلى "الغرباء" الذين قدموا إلى "عين الحلوة". و"الغرباء" هم الذين قدموا من الصحراء العربية والمغاربية طلباً لقتال الأميركيين في العراق، واستقروا في بعض المحطات ومنها "عين الحلوة". والخطر يقع في استقرار هؤلاء بعد دمج الجبهات، وخصوصاً انه سبق للدكتور الظواهري ان دعا "مجاهدي بلاد الشام" للمشاركة في الجهاد".
ربما هؤلاء "الغرباء" الذين يبقى عددهم محدوداً يشكلون جزءاً مهماً من مخزون البارود في المخيم الذي يهدّد الجميع. الواقع أن التنظيمات الإسلامية التي لا يعرف الكثيرون بدقة أين تبدأ وتنتهي هم الخطر الحقيقي. "عصبة الأنصار" التي تمسك بالمفصل الأمني في "عين الحلوة"، تبدو رغم كل محاولتها لفصل الساحة اللبنانية عن باقي الساحات، تقف على حافة السكين في كل ادبياتها وطروحاتها،إذ يقول "أبو شريف" الناطق باسمها: لا علاقات تنظيمية لنا مع "القاعدة" لكن استراتيجيتهم هي استراتيجيتنا وعدوهم عدونا وإلههم إلهنا".
أمام هذه "الوحدة الفكرية" لا يمكن إلا التعامل بحذر شديد فالخطر يكمن في كل كلمة وبالتالي في كل حركة. الفلسطينيون على مختلف فصائلهم، سارعوا أمام توافق خطرين قائمين على مصيرهم وحتى وجودهم إلى العمل لتطويقهما.
الخطر الأول هو في عدم الانزلاق في مستنقع الخلافات اللبنانية ـ اللبنانية التي تكاد تسقط لبنان كله في نار الحرب الأهلية.
الخطر الثاني، هو في اشتعال النار في مخيم "عين الحلوة" "الحمراء" فتوقع الكارثة القاتلة.
عملية الالتفاف الفلسطينية كانت أولاً في تشكيل "لجنة طوارئ" التي ضمت "فصائل منظمة التحرير" و"قوى التحالف" ومن ثم تشكيل هيئة تنسيق عليا تعمل على تنسيق عمل جميع الفصائل على يد قيادات قديمة معروفة بالتزامها ووفائها لقضية شعبها أولاً وأخيراً مثل كمال مدحت وبطبيعة الحال برئاسة عباس زكي.
"عصبة الأنصار" المستقوية
"عصبة الأنصار أكبر التنظيمات الاسلامية في المخيم ومعها الحركة الاسلامية المجاهدة" بزعامة الشيخ جمال خطاب وعدتا بالعمل للتخلص من ظاهرة "الغرباء" التي تنفي بعض الفصائل وجودها أصلاً، علماً أن المسؤولين اللبنانيين المعنيين بالملف يؤكدون وجودها وضرورة الإسراع في التعامل معها جذرياً، تغليباً لمصلحة المخيم وسكانه.
ما يزيد من المخاوف أن هذه الأزمة تقع حالياً في قلب مسار الأزمة اللبنانية المتقلب. والاخطر أن كلاماً كبيراً نقل عن الرئيس جورج بوش يؤشر إلى رغبة أميركية دفينة "بتوطين الفلسطينيين" حيث هم. على قاعدة "أن لا مكان ليذهب إليه الفلسطينيون ولذلك سيبقون حيث هم". ومما يزيد حدة هذه المخاوف ان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي سارع إلى إبعاد فرنسا من هذا الموقف رغم حلفه العميق مع بوش واستعداده للقاء القمة معه في منتصف هذا الشهر، وقال في لبنان أمام الرؤساء الثلاثة العماد ميشال سليمان ونبيه بري وفؤاد السنيورة: "ما هي هذه الدولة الفلسطينية بلا الفلسطينيين". وفي هذا الكلام الهام رفض علني للتوطين. لهذا كله من الضروري للفلسطينيين الابتعاد عن جملة هذه الأخطار، ولبعض القوى سواء كانت فلسطينية أو مستورة، على الفلسطينيين الابتعاد عن النار حتى لا يكون الناتج الكبير لها والذي يضمره البعض، التدمير فالتهجير القسري للالتفاف على أي محاولة للتوطين.
توجد حالياً مصلحة وطنية عليا للشعبين اللبناني والفلسطيني معاً، في تطويق ووأد أو ضرب هذا الخطر الأصولي الكامن في مخيم "عين الحلوة" أو غيره من المخيمات وأيضاً بعض الساحات الخلفية والمخفية على مساحة لبنان، تجربة "فتح الإسلام" ومخيم "نهر البارد"، تكفي لاستخلاص كافة الدروس حاضراً ومستقبلاً. لا يمكن لأي طرف رفع المسؤولية عنه والاحتجاج بفعالية الخارج وضخامة المؤامرة. المطلوب استعجال عمل وطني موحّد للبنانيين وللفلسطينيين على حدة من جهة وللطرفين معاً يداً واحدة من جهة أخرى.
زيارة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي لم تكن لبنانية فقط. لعمق التزاوج بين الملفين اللبناني والفلسطيني كانت الزيارة أيضاً فلسطينية في أحد جوانبها خصوصاً ما يتعلق منها بإقامة الدولة الفلسطينية وعودة الفلسطينيين إلى ديارهم وعدم إنجاح مؤامرة التوطين.
الفرح الكامن بعودة الحياة إلى بعبدا مع زيارة الرئيس الفرنسي والوفد الكبير الذي رافقه حجبت صورة مهمة يمكن أن تشكل درساً كبيراً ومستقبلياً للبنانيين والفلسطينيين معاً.
الصورة الفرنسية تتمثل في هذا التجمع الضخم لكل أطياف القوى الفرنسية برئاسة ساركوزي. السياسيون الذين رافقوا رئيس فرنسا وتحركوا ضمن "برنامجه" الموضوع بدقة الساعة السويسرية، لا يحب أحدهم الآخر، لا بل انهم متحدون ومتفرقون لا يتوافقون وحتى انهم لا يحب أحدهم الآخر، توافقهم الوحيد هو على كراهية ومحاربة ساركوزي طلباً لخلافته، وبعضهم تصفية لخلافات قديمة ـ متجددة.
كل هذا الود المفقود، والمنافسة الدائمة، لم تمنع فرنسوا هولند الزعيم الاشتراكي وفرنسوا بايرو زعيم الوسطي الذي حرمه ساركوزي حتى من كتلته النيابية في البرلمان وغيرهما من الظهور يداً واحدة، لأن الزيارة مدرجة في اطار المصلحة العليا لفرنسا. فالمصلحة الوطنية لفرنسا فوق كل المصالح والخصومات والمنافسات. لكل شيء وقته، وفرنسا مساحة واسعة تقبل ديموقراطيتها وتشجع على تفجير كل الخلافات وحتى الأحقاد فيها وليس خارجها.
لو انتبه اللبنانيون وأيضاً الفلسطينيون إلى هذه الصورة، لما اضطروا يوماً للجوء إلى الخارج لنشر غسيل خلافاتهم، ولما احتاجوا إلى أحد لتهدئتهم والدفع باتجاه إقامة هدنة معلقة على شرط منصب وزاري، مع العلم ان الجميع يعرف جيداً ان "العرقنة" ما زالت متوثبة خلف باب هذه الخلافات. الاحتقان قائم وهو يزداد يوماً بعد يوم. أي "زلزال" حقيقي قد تبلغ قوته المستحيل وهو عشر درجات على ميزان ريختر، وهذه الحالة ليست احادية، فالفلسطينيون الذين ينتقلون من نكبة إلى نكسة بعد نكسة، يعانون من الحالة اللبنانية. الفلسطينيون يتناحرون بين الضفة الغربية وغزة عدا داخل كل جهة على حدة، ويطلبون العلاج في الخارج، بدلاً من ان توحدهم مصائبهم التي تدمي قلوب العالم لفرادة ما يعانون على المستوى العالمي كله.
المطلوب استعجال عمل وطني موحّد للبنانيين والفلسطينيين كلاً منهما على حدة من جهة ومن جهة أخرى العمل يداً واحدة بصدق وشفافية للخروج بسلامة من محرقة قائمة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.