ولد "الاتحاد المتوسطي" ميتاً. الفكرة كانت غريبة وطموحة. ضخمة الى درجة ان أحداً غير الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي استطاع هضمها. عندما نجح شمالاً في تسويقها، وجد ان "التهذيب العربي" لم يكن شيكاً على بياض كما خطر له، أي مشروع فيه "الشوكة الاسرائيلية" لا يمكن أن يبتلعه أي عربي حتى ولو كان قد أقام الصلح ووقع مع تل أبيب اتفاقات دولية.
خفض ساركوزي "سقف" مشروعه، فتحول الى "اتحاد من أجل المتوسط"، رغم ذلك لم ينجح في تسويق مشروعه لأنه لم يفهم أحد من سيكون في خدمة من؟ الشمال في خدمة الجنوب، أم العكس صحيح؟ سقط المشروع عملياً وان لم يعلن رسمياً.
دمشق بيت القصيد
الآن تواضع ساركوزي وعاد من جنة الأحلام الى الواقعية السياسية. "الاتحاد المتوسطي"، أصبح عملياً "برشلونة 2" لا أكثر ولا أقل. موريتانيا ليست متوسطية ولكنها مدعوة لأنها موجودة في الفضاء المتوسطي مثلها مثل الأردن. عاصمة "المشروع" التي لم يعلن رسمياً اسمها الجديد ستكون في بروكسل وليس في دولة عربية من المفترض ان تكون تونس.
بيت القصيد في كل ذلك، العلاقات الفرنسية السورية. الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ذهب بعيداً في "احراقه للمراحل" مع دمشق، الى درجة أنه لا يمكنه التراجع حالياً، فقد كاد يحرق كل "مراكبه" لتحقيق حلمه. أدرك ساركوزي ان مشروعه لإقامة "الاتحاد" قد فشل عملياً. حالياً يريد انجازا ما يعتبره الجانب التاريخي من المشروع الذي سيدخله التاريخ، وهو حل النزاع العربي الاسرائيلي. وهو كما يبدو يرى ان الفرصة مؤاتية لتحقيق هذا الانجاز.
يرى ساركوزي ان مفتاح الحل هو بيد دمشق لذلك يجب استعادة ودها والاسراع بالتطبيع معها. لم يكن هذا سهلاً بوجود الأزمة اللبنانية ودور دمشق المعروف فيها. أطاح ساركوزي بكل الشروط الصعبة والمعقدة، ليعيد العلاقات معها، ساعده في ذلك مسار المفاوضات المفتوح بين تل أبيب ودمشق عبر أنقرة. اكتفى بانتخاب رئيس للجمهورية في لبنان، لدعوة الرئيس بشار الأسد الى احتفالات 14 تموز. في الطريق الى منصة الاحتفالات في ساحة الكونكورد، يوجد مبنى المؤتمرات الذي سيستضيف المشاركين في المؤتمر التأسيسي لما يمكن تسميته الآن "برشلونة 2" وليس "الاتحاد المتوسطي" أو كل ما يتعلق بالمتوسط.
الرئيس السوري بشار الأسد سيشارك في الاحتفالين، لأنه أخذ أكثر مما يجب. فالعرض الفرنسي كان أكبر من أن يرفض، السؤال ماذا بعد؟ بوضوح أكثر ماذا يمكن لساركوزي أن يطلب أكثر وماذا يمكن للأسد أن يعطي أكثر؟ بين العرض والطلب، يقع لبنان في الوسط. باريس الساركوزية غير باريس الشيراكية. كل شيء أصبح من الماضي يكفي متابعة برنامج رحلة شيراك الى القدس ورحلة ساركوزي اليها. أيضاً امتناع ساركوزي عن زيارة رام الله حتى لا يلقي نظرة على ضريح الرئيس الراحل ياسر عرفات، واحتضان شيراك له في أيامه الأخيرة في باريس. أيضاً موقف شيراك من لبنان وغرقه في تفاصيله الى درجة اقفال الأبواب في وجه دمشق. وموقف ساركوزي الذي كما يقال في باريس مستعد "للمشاركة في صفقة لدفن المحكمة الدولية بطريقة لائقة".
التحالف مع واشنطن
باريس تعرف تفاصيل اللعبة، وأولها ان دمشق تلعب مع إبقاء عينها على واشنطن. دمشق لن تقدم سوى ما يرضي باريس ويسكتها أما "الهدايا" الضخمة فستبقى محفوظة لواشنطن، خصوصاً اذا انتُخب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة. عندئذ تصبح عملية العرض والطلب حقيقية جداً ويمكن البناء علينا.
ساركوزي لديه حسابات أخرى، ذلك ان عودة باريس الى الحلف الأطلسي واقترابها من واشنطن، الى درجة الالتزام تعظيمها حضوراً أكبر في القرارات الدولية وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط. الأهم من كل ذلك، ان باريس الساركوزية ترى ان العالم وخصوصاً منطقة الشرق الأوسط منه بدأ مرحلة انتقالية نتيجة لاقتراب نهاية ولاية جورج بوش، وانتخاب رئيس أميركي جديد. هذه المرحلة ستطول لمدة سنة لأن الرئيس الجديد لن يبدأ تنفيذ سياسته الجديدة قبل ربيع العام 2009. هذه الفترة كافية للتحرك والتقدم وفرض سياستها على مجرى الأحداث.
برنار كوشنير وزير الخارجية، وجد لدى زيارته لبغداد، استعداداً لعودة باريس. الساحة فارغة والجميع (وكلها من الدول الحليفة لواشنطن) يعمل على اخذ مكان له فلماذا لا تكون لباريس مكانة تستحقها خصوصاً وانها كانت تنفرد تقريباً بالعمل والتحرك والمشاريع خصوصاً النفطية منها في عهد الرئيس الراحل صدام حسين.
العراق وملء الفراغ
وهي تعمل على ملء الفراغ في العراق كما تفعل باقي الدول، فإن باريس التي تتابع تطورات العلاقات الأميركية الاسرائيلية الايرانية اطلعت على رفض جنرالات الجيش الأميركي لرفضهم أي عمل حربي واسع أو محدود ضد طهران، لأن في ذلك مخاطرة كبيرة. لكن باريس مطلعة أيضاً على أن ذلك لن يثني بوش في الفترة الممتدة من الحملة الانتخابية حتى احتفالات القسم في 20/1/2009 ان يشن عملية عسكرية واسعة ضد طهران. ولذلك فإن أي عملية من هذا النوع قد تقلب الموازين وتجعل من دمشق "خطاً دفاعياً عن طهران". وهذا ما لا تريده باريس ودمشق معاً.
أمام مثل هذا الاحتمال، فإن باريس تحاول "بيع" بوش جهدها "لسلخ" دمشق عن طهران. وانها في سبيل تحقيق هذه "العملية الجراحية الموضعية"، تفتح الأبواب باتجاه دمشق ومعها. واذا ما صح هذا "الوهم" الفرنسي بإمكانية نجاح مثل هذه "العملية"، فإن معرفة من يبيع الآخر لمن مهم جداً. خصوصاً وأن ثمن مثل هذه العملية متى بدأت ونجحت سيكون من لبنان و"حزب الله"، ولا فرق بالأولوية.
الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وهو يندفع بهذه السرعة، معتمداً طريقة "الكنغارو" الأسترالي في القفز، يفقد في أحيان كثيرة دقة الرؤية، مما يُسهّل جداً وقوعه في اخطاء قاتلة كان يمكنه تجنبها لو أحسن القراءة. من هذه الأخطاء القاتلة، تخلي فرنسا عن لبنان عملياً وواقعياً مقابل وعود لن يتحقق منها الكثير. أو مقابل مبادرة ايجابية واحدة في وقت مطلوب فيه الانخراط في مسار طويل من المبادرات بأقل ما يمكن من الكلام وأكثر مما يجب من الأفعال.
تنسى باريس في كل هذه اللعبة طهران وموقعها في ادارة الصراع والتفاوض. هل يمكن لباريس في لحظة من اللحظات ان تكون مقتنعة أو ان تصدق بأن طهران ستقف مكتوفة الأيدي تتفرج علي كل ما تفعله باريس لسلخ دمشق عنها بعد كل الاستثمار الذي قامت به طوال ثلاثة عقود؟ وهل يمكن لباريس ان تتابع طهران، "حزب الله" وهو يذبح على يد دمشق ولا تعمل على منعها وجعلها تدفع الثمن غالياً.
مجرد وجود هذه الاحتمالات يعني ان سياسة القفز "الكونغرية" لن تمنع نيكولا ساركوزي من السقوط في لحظة غير متوقعة على "لغم" يطيح بكل مشاريعه. وعندئذ ستكون واشنطن الشامت الكبير به.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.