8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

ساركوزي ربح "مظاهرة الاتحاد" ونجاحها معلق على شروط الصلح العربي ـ الاسرائيلي والقرار الأميركي

"الانقلاب" الذي قام به الرئيس نيكولا ساركوزي على السياسة الفرنسية التقليدية مع العالم العربي، أسرع من أي انقلاب عسكري وقع في العالم العربي طوال عقود طويلة، أصغر انقلاب اقتضى تحضيره وتنفيذه أكثر من سنة. انقلاب ساركوزي لم يتطلب سوى فترة اختلط فيها التخطيط بالتنفيذ. المحرك الفعلي لهذا الانقلاب محصور بشخصية ساركوزي نفسه. من جهة يريد دخول التاريخ من بوابة الشرق الأوسط، بعد ان تيقن انه لن يدخله من فرنسا الداخلية، ومن جهة أخرى، يريد إثبات مدى تعلقه باسرائيل وجوداً وأمناً ومستقبلاً.
نيكولا ساركوزي، نجح كثيراً وبتفوق، في إثبات تعلقه باسرائيل، وهو يريد متابعة هذا المسار حتى النهاية.
النجاح الآخر الذي يعني ساركوزي معلق على شرط تحقيقه صعب جداً. الشرق الأوسط أغرى منذ مطلع التاريخ قادة اسطوريين لكنه نادراً ما حصل ما تمناه هؤلاء، لأن في هذه المنطقة يختلط كثيراً وبعمق السراب بالواقع، لتظهر فجأة حقيقة التضاريس وبذلك تكون المفاجأة دائماً قاتلة.
فرنسا بين "قامتين"
قد ينجح مشروع الرئيس الفرنسي "الاتحاد من أجل المتوسط" وقد لا ينجح وهو الأرجح، الا اذا كان المقصود تحقيق انجازات محدودة تحت "سقف" عال وعريض يخفي بظلاله حقيقة الأحجام، لكن هذا لا يمنع أن المظاهرة الدولية حققت انجازاً اعلامياً له ـ وهو ما يعشقه ساركوزي ـ غير مسبوق وبين موعدين تاريخيين. الأول في الذكرى الثانية لحرب اسرائيل على لبنان في الثاني عشر من تموز، والثاني ذكرى الثورة الفرنسية في 14 تموز.
هذا النجاح الإعلامي الضخم، يؤكد مرة أخرى، ان فرنسا التي كانت على قامة الجنرال ديغول بإنجازاتها، أصبحت الآن على قامة ساركوزي في "مظاهراتها". من حق أي رئيس فرنسي أن يعمل لضمان مصالح فرنسا، هذا واجبه ودوره. لكن أيضاً على أي رئيس فرنسي أن لا ينسى ان فرنسا بقيت واستمرت حاضرة في التاريخ والحاضر وستبقى في المستقبل لأنها بقيت تقف دائماً على أرض صلبة هي الالتزام والعمل بمبادئ انسانية قبل ان تكون فرنسية.
الآن وقد فتح الرئيس ساركوزي كل أبواب فرنسا امام الرئيس السوري بشار الأسد بسرعة انقلابية، يجب سؤاله: ماذا حقق لفرنسا؟ ماذا أعطى وماذا أخذ طالما ان المصالح هي الأساس في العلاقات الدولية؟.
أعطى الفرنسي السوري صكاً برصيد مفتوح على الشرعية الدولية ممثلة بـ43 رئيساً وزعيماً، ولم يأخذ منه الا "شيكاً" برصيد محدود جداً ومعلق على شرطين:
* الأول انتظار انتخاب رئيس للجمهورية في الولايات المتحدة الأميركية، وأن يقبل هذا الرئيس الأميركي لعب دور "العراب" للمفاوضات السورية ـ الاسرائيلية، والمدخل الطبيعي لذلك إعادة التطبيع الكامل مع دمشق.
* الثاني تحول المفاوضات السورية ـ الاسرائيلية من مفاوضات غير مباشرة إلى مباشرة، وهو ما يتطلب بناء جسور الثقة والاتفاق على تبادل الأرض بالسلام.
أكثر من ذلك، فإنه مقابل الطموح الأميركي بالعمل على "سلخ" دمشق عن طهران، فإن ساركوزي قبل بوعد الأسد بالعمل على "اقناعها" بتقديم الأدلة، وهي غير موجودة لأن الأسد مقتنع بصحة ومصداقية الموقف الايراني ـ بأنها لا تريد "عسكرة" برنامجها النووي.
كوشنير "المبعد"
يبقى "بيت القصيد" في كل ذلك كما يقال وهو لبنان. حتى وزير خارجية فرنسا برنار كوشنير الذي يعرف العالم كله وظهر ذلك خلال استقباله للزعماء في ساحة الكونكورد ـ يبدو غير مقتنع بموقف رئيسه، ولذلك تلقى مديحاً ضخماً فطار ليحط على الرف وليأخذ دوره غايان رجل ساركوزي الأول. ساركوزي اقتنع بوعود الأسد حول لبنان معتبراً ان "دوره" في انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للبنان كاف لاثبات حسن نواياه، وأن قبوله بإقامة علاقات ديبلوماسية مع لبنان، وهو وعد قديم منذ 2005 تم تجديده وتحويله إلى "جائزة ترضية" معلق على إجراءات فنية على مثل وجود "الشيطان في التفاصيل". وربما اولى هذه التفاصيل ان يعتذر اللبنانيون الذين أساؤوا لدمشق التي ستسامحهم لأن "قلبها كبير ويتسع لهذه الخطايا"، وليس ان تعد دمشق اللبنانيين بأنها وهي وتعود "تأسف وليس تعتذر" عن خطايا واساءات النظام السياسي ـ الأمني السابق.
وأخيراً وليس آخراً، كانت "المحكمة الدولية" الغائب الكبير عن محادثات القمة. طبعاً ساركوزي يرى ان المحكمة أمر دولي ولم تعد من اختصاصه، وأن الأسد يريد الحقيقة قبل اي شخص آخر، لأن "البريء" لا يخاف. كل ذلك قد يكون صحيحاً. لكن أيضاً وهو يمكن صحيح اكثر لأنه واقعي اكثر، ان المحكمة يمكن ان تكون بلا محاكمة، وبذلك فإن أبواب لبنان ستبقى مشرعة امام تجربة جديدة قد تكون أقسى بكثير في المستقبل.
لا يلام ولا يُدان الرئيس بشار الأسد، فما نجح بالحصول عليه من الرئيس نيكولا ساركوزي، يؤكد بأنه يعرف مصلحته ويعرف كيف يحصلها وكيف يستثمر كل شيء بصبر وملاحقة وتصميم غير آبه بأحد ولا اي شيء يعيقه، فالرئيس السوري يتحرك "كالبلدوزر" بلا رحمة مؤكداً بذلك انه ابن أبيه الرئيس الراحل حافظ الأسد..
فارق مهم بين الأب والابن. ان الزمن تغير، والمطلوب تغييرات اساسية وعميقة. الرئيس الراحل حافظ الأسد كان يقايض كثيراً ويدفع من "كيس" غيره. الرئيس بشار الأسد نجح في هذا المسار حتى وجد نفسه حالياً امام حقيقة أخرى وهي ان عليه ان يدفع، وهذه المرة من "كيسه". وهذا التغيير صعب لأن تغيير الطبع والبدء بالتطبيع امران صعبان جداً.
الرئيس بشار الأسد لم يدفع كثيراً حتى الآن مقابل ما اخذه خصوصاً من الرئيس نيكولا ساركوزي، غداً اذا ما بدأ مسار المفاوضات المباشرة، فإن عليه ان يدفع من "كيسه" اي مفاوضات لا بد ان تطال مسارات اقليمية أخرى، قد لا يطالب كما يبدو التوجه "بسلخ" دمشق عن طهران، لكن طهران لا بد ان تغير موقفها منه خصوصاً اذا طال التغيير "حزب الله" وهو سيحصل عاجلاً ام آجلاً وايضاً فلسطين ومسألة العلاقة مع اسرائيل وعندها لن يعود الأسد الذي نعرفه، بالتأكيد سيبدأ مساراً آخر ليجد في هذا العالم الجديد مكاناً له.
ويبدو ان الرئيس السوري يعرف ذلك، وهو منذ خرج من لبنان اخذ يعد نفسه لتقبل هذا العالم الذي تغير، وبهذا نجح في اقامة علاقات طبية ومتينة مع تركيا الحاضر والانقطاع عن الماضي المعقد. وفي البدء مباشرة بالمفاوضات غير المباشرة مع الاسرائيليين، بدلاً من انتظار الراعي الاميركي لرعاية مثل هذه المفاوضات. بهذه البداية، قدم "اوراق اعتماده" إلى الآخرين وفي مقدمتهم الرئيس الفرنسي فاعتمده وحضنه وقدمه للعالم.
الرئيس الفرنسي ساركوزي انجز "انقلابه" بقليل من الافعال وكثير من الاقوال. المستشارة الالمانية انجيلا ميركل طالبت الأسد بالكثير من الافعال اولاً. هذا هو الفرق بين العقل الالماني البارد، والعقل الساركوزي المتوسطي.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00