اضطرت باريس لأول مرة، للدفاع عن سياستها حيال لبنان. كانت باريس دائماً في موقع الهجوم، لأنها حتى ولو اختلفت الظروف والشروط، تبقى "الحاضنة" وحتى "الأم الحنون" التي ترعى لبنان، ولا تفصل بينه وبين ملفات علاقاتها مع العالم العربي. كان لبنان في قلب حركتها وآلياته، لا تتخلى عنه مهما كانت الاغراءات كبيرة.
"قفص الاتهام"
باريس الساركوزية، استفاقت من "سكرتها" بعد احتفالات اعلان "الاتحاد من أجل المتوسط"، ووجدت نفسها في "قفص اتهام" بأنها تخلت عن لبنان، وحتى انها قدمته "جائزة" للرئيس بشار الأسد. وكان في هذا "الاتهام" شيء من الوقائع ما جعله واقعياً. فالرئيس نيكولا ساركوزي لم يحرق المراحل وهو يفتح الأبواب كل الأبواب مع دمشق، فقط، فقد انقلب على فرنسا التقليدية، وكأنه مهما بلغت أهمية المصالح والبحث عن دور له لا توجد قواعد ولا ضوابط لصياغة العلاقات الدولية. بسرعة الصوت قفز الرئيس نيكولا ساركوزي في علاقاته مع الرئيس بشار الأسد من المقاطعة الى اقامة علاقات استراتيجية مرتكزاً في ذلك على تقديمات عملية محدودة وأقوال ووعود كثيرة.
الرئيس الفرنسي "صاغ خطاً دفاعياً" يؤهله في اللحظة المناسبة للهجوم، قاعدة هذا "الخط"، كما قدمه برنار كوشنير وزير الخارجية الذي يعمل على أساس انه لا توجد سياستان ديبلوماسية لفرنسا. توجد ديبلوماسية واحدة هي سياسة الرئيس، مهما كان تنفيذ هذه السياسة قاسياً على موقعه:
* ان أوروبا تريد وزناً سياسياً اضافياً في عملية السلام في الشرق الأوسط وليس فقط الممول.
* ان فترة التغيير التي تمر بها الولايات المتحدة الأميركية بانتظار الانتخابات الرئاسية، تترك مجالاً لصياغة "خريطة طريق" تعزز الدور الأوروبي عندما يصل رئيس أميركي جديد. باختصار ساركوزي يرى ان فرنسا التي ترأس أوروبا يمكنها أن تأخذ موقعاً في هذا الوقت الضائع، تستطيع استثماره بمقترحات جديدة وجدية على قاعدة التعاون وليس التنافس مع الرئيس الأميركي الجديد.
التأثير في أداء دمشق
بالنسبة الى لبنان، فإن باريس وعلى لسان مسؤولين في قصر الاليزيه والخارجية الفرنسية، تشدد على ان هذه العلاقات الاستراتيجية مع دمشق، تهدف أساساً الى "التأثير في أداء دمشق حيال لبنان". وقد نجحت هذه المقاربة من خلال "اختبارات ميدانية" أكدت خلالها دمشق قوة موقعها في لبنان وفي أزمته وفي صياغة الحلول. وقد أنتجت اتفاق الدوحة بالمشاركة مع قطر، ومن ثم انتخاب رئيس توافقي للرئاسة هو العماد ميشال سليمان، وعشية قمة باريس تشكيل "حكومة الوحدة الوطنية".
أما الاختبار الصعب وهو اقامة علاقات ديبلوماسية بين سوريا ولبنان، وهو "استحقاق ضخم جداً"، لأنه ينهي عقدة تاريخية تتعلق باعتراف دمشق بلبنان دولة مستقلة بعد عقود طويلة كانت ترفض ذلك، فان هذا الاستحقاق سيتم انجازه، فقد وعد الرئيس بشار الاسد بذلك وسينفذ وعده.
استفاقة باريس على تصريحات سورية بضرورة تجاوز "مشاكل قانونية" وضرورة صياغة حل للمجلس اللبناني ـ السوري، اكد ان في "التفاصيل يكمن الشيطان" ولذلك كان الرد الفرنسي سريعاً. وقد جاء من مواقع ديبلوماسية عديدة في لقاءات سريعة او معدة مع الصحافيين العرب واللبنانيين. الاطار العام لهذا الرد:
* ان باريس لن تكتفي بالوعود وهي ستلاحق خطوة بخطوة مسار تنفيذ هذه الوعود، فالافعال تبقى هي الاثبات الوحيد لمصداقيتها.
* ان ديبلوماسياً فرنسياً سيكلف بمتابعة تنفيذ سوريا لوعودها. وهذا "الموفد" الذي سيكون الاليزيه مرجعيته سيكون على اتصال دائم وحتى يومي بدمشق وبيروت وباريس لكي تكون "الصورة واضحة وشفافة وكاملة". فلا يبنى موقف الا على هذا الاساس.
* ان الرئيس نيكولا ساركوزي الذي سيزور دمشق في الثامن من ايلول كما جرى الاتفاق مع الرئيس بشار الاسد، سيعلق زيارته على شرط الاعلان الرسمي لاقامة العلاقات الديبلوماسية بين لبنان وسوريا. وبهذا فان هذه "المحطة" هي الاساس في مسار العلاقات الاستراتيجية ونجاحه.
"قوة الدفع الانقلابية"
رغم كل هذه التبريرات الفرنسية الرسمية او غير الرسميية، فان علامة تعجب ما زالت قائمة لدى الاوساط اللبنانية والعربية في باريس، حول حقيقة "قوة الدفع الانقلابية" التي انتجت هذا "الانقلاب الساركوزي". بعض الاصوات الفرنسية التي لا تريد الخروج علناً عن هذه السياسة، تؤشر الى ان الرئيس الفرنسي "يخوض مغامرة كبيرة قائمة على حسابات كثيرة، لكن لا شيء يضمن نجاحها رغم ان فشلها سيقع على عاتق ساركوزي المعترف بانه "يقوم بمخاطرة جدية".
من ذلك، ان باريس تعمل وكأن "اتجاه الرياح في المنطقة يتغير ويجب وضع الاشرعة الفرنسية في زاوية مناسبة، وان رياح التغيير داخل لبنان نفسه تبدو وكأنها ستتغير ولذلك يجب الاستعداد للتعامل مع هذا التغيير قبل وقوعه حتى لا تكون باريس في موقع الضيف الثقيل وانما في وضع الفاعل والمؤثر". وفي عملية حسابية تقوم على احداثيات الوضع اللبناني القائم، فان "باريس تتوقع ان تفوز المعارضة في الانتخابات التشريعية في الربيع من العام القادم، وهذا الفوز سيؤدي الى تغيير كامل لمصلحة دمشق، التي ستكون اكثر حضوراً في القرار السياسي اللبناني على "يد" هذه المعارضة المتحالفة معها والتي تدين لها بالكثير من قوتها بما فيها "حزب الله"".
رهان باريس ـ الساركوزية، ليس فقط كبيراً بل هو مصير على دورها في المنطقة. هذا الرهان يقوم اساساً على الثقة بوعود الرئيس بشار الاسد الذي يعتبر نفسه اليوم في موقع "المنتصر" القادر على فرض موقفه وشروطه فيما بعد خصوصا بعد خروجه من "عين الخطر".
يبقى ان نيكولا ساركوزي وهو يبني "خط دفاع" له لحماية "الانقلاب" الذي احدثه يعلق مستقبل سياسته الخارجية على امكانية تحول هذا الخط الى "خط ماجينو"، الذي ما زال سقوطه مزروعاً في ذاكرة الفرنسي العادي.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.