البراغماتية السياسية، تنتج لقاءات ومباحثات بأهمية وحجم اللقاء بين سعيد جليلي كبير المفاوضين الايرانيين ووليام بيرنز الرجل الثالث في وزارة الخارجية الأميركية. الأبرز في لقاء جنيف، غياب الأوهام، ومحدودية الرهانات على الخروج بنتائج انقلابية من جهة، ومعرفة كل طرف لماذا جاء وبماذا سيخرج من هذا اللقاء الذي حضره خافيير سولانا إلى جانب ممثلي مجموعة الدول الست.
لقاءات أمنية كثيرة
الطرفان الأميركي والايراني يعرفان بعضهما البعض. سبق أن التقيا مرات أثناء الحرب العراقية ـ الايرانية، وذكرى زيارة مكفرلين إلى طهران ما زالت ماثلة في الذاكرة الشعبية، وفي فترة التحضير للحرب ضد "الطالبان" في افغانستان، وقبل غزو العراق، وطوال السنوات الخمس الماضية من الاحتلال خصوصاً في السنة الأخيرة منها. رغم ذلك فإن هذا الاجتماع يشكل قفزة سياسية ضخمة، فالاجتماعات السابقة كانت في غالبيتها أمنية بحتة، رغم ان الأمن جزء أساسي من السياسة، في حين ان هذا الاجتماع ديبلوماسي ـ سياسي يبحث مشكلة سياسية واقتصادية وأمنية استراتيجية تعني أمن ايران وأميركا والمنطقة كلها.
الرئيس جورج بوش، بذل جهداً نفسياً قبل أن يكون سياسياً، ليحول مؤشر "بوصلته" باتجاه اللقاء. حتى كبار الديبلوماسيين الأميركيين يقولون: "ان الإدارة تأخرت أكثر من سنة للقبول بالخيار الديبلوماسي وتنفيذه. قبل عام كان موقف بوش أقوى بكثير من الآن". كان الخوف الايراني من عملية عسكرية أميركية حاضراً بقوة، ولذلك كان الحذر كبيراً حتى "لا ينقض النسر الأميركي من أعالي السماء إلى الأرض ليخطف طريدته". حالياً تغير الوضع كثيراً، إلى درجة ان جورج بوش تحرك نحو ما لا يؤمن به لأن:
* شعبيته في أدنى درجاتها حيث لم تعد تبلغ أكثر من عشرين في المئة، وهي نسبة لم يصل إليها أي رئيس أميركي في نهاية ولايته.
* لم يحقق أي إنجاز في ولايتين رئاسيتين، يمكن أن يذكر به يوماً في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية.
* الاقتصاد الأميركي على حافة الانهيار، ومسؤوليته في ذلك ضخمة جداً.
* يخوض حربين دمويتين في افغانستان والعراق. وإذا كان لا يوجد حالياً أي أفق للحرب ضد "الطالبان" و"القاعدة" فإن الرأي العام الأميركي يريد أي جهد يؤشر إلى نهاية النفق في العراق.
* ان انحدار سعر الدولار أصبح يهدد موقع الدولار والاقتصاد الأميركي، مثلما ان ارتفاع سعر النفط أصبح يهدد بأزمة اقتصادية وإنمائية للعالم ولأميركا نفسها.
الحرب بين الخوف منها والرغبة بها
ان الحرب ضد إيران صعبة جداً، والتفاهم معها أصعب، فالرئيس جورج بوش الذي يرغب ضمناً بالحرب، "يدرك الآن حدود قوته". مشكلة بوش ان قراراته كما يجاهر العديد من المسؤولين الأميركيين "اعتباطية". دنيس روس الخبير في شؤون الشرق الأوسط والمرشح لمنصب رفيع في الادارة إذا ما فاز باراك اوباما بالرئاسة يقول: "ان الفشل يعود إلى غياب أي رؤية شاملة لمنطقة الشرق الأوسط تأخذ بالاعتبار التحدّي الايراني وتتعامل معه خلافاً على مختلف الصعد".
طهران بدورها، تقدمت خطوات كبيرة باتجاه "الشيطان الأكبر"، الذي لم يعد "الشيطان" الذي كان محرّماً على مسؤول الحديث ولو عن احتمال مستقبلي للتباحث معه، خصوصاً ان شعار الإمام الخميني: "لو قالت الولايات المتحدة الأميركية لا إله إلا الله فلا تصدقوها"، كان يشكل خطاً أحمر لا يمكن الاقتراب منه فكيف بكسره.
الايرانيون من القمة الى القاعدة يعرفون ان الادارة الأميركية تحولت مؤخراً الى "نمر جريح" يجب التعامل معه بهدوء وحذر شديدين. فالقرار ما زال بيد بوش و"الصقور" المحيطون به يرغبون بالحرب ضد ايران، خصوصاً أن اسرائيل تريد ذلك اليوم قبل الغد. الايرانيون يعلمون جيداً وبوضوح شديد أن أي حرب مع الأميركيين خاسرة حتى ولو انتجت ارباحاً سياسية ضخمة كما حصل في "حرب تموز" في لبنان. الأهم بالنسبة للايرانيين بقاء ايران بقوتها الحالية بدون حرب. فالايرانيون يمكن ان يقامروا بكل شيء الا بإيران. اضافة الى ان النظام القائم يعرف ان "رأسه" هو المطلوب وأنه كان وما زال يشكل "الجائزة الكبرى"، في كل هذه "الحرب المكشوفة" منذ سقوط الشاه وعودة الامام الخميني الى طهران.
طهران الرسمية رحبت بهذا الاجتماع، لأنه حصل وانتهى وثلاثة آلاف طرد مركزي تعمل بأقصى طاقاتها. بهذا ربحت طهران رهانها، فلم تجمد التخصيب كما كانت واشنطن تشترط قبل أي اجتماع. ما يريده الايرانيون أن يكون تجميد التخصيب مقابل تجميد العقوبات.
شهادة حسن السلوك
الآن هو "وقت البحث حول الدور الاقليمي والدولي لايران عبر بوابة التعاون الأمني في مواجهة الأزمات القائمة على طريق حلها" كما يقول الايرانيون. لكن حتى تطلب طهران ذلك فإنها قدمت الكثير، فهي قبلت تقديم "شهادة حسن سلوك مع اثباتات ميدانية على قدرتها للمساهمة ايجابياً مثلما أكدت حضورها ونفوذها بالقوة السلبية، وذلك في العراق وغزة ولبنان". هذه الهدنة الواضحة والمؤكدة ميدانياً في أزمات الشرق الأوسط تمت بمشاركة ايرانية حقيقية. السيد مقتدى الصدر خضع لاختبار القوة بعد ان تخلى عنه الايرانيون وبذلك نجحت عملية استعادة التوازن في بغداد. وطهران شاركت في انجاح اتفاق الهدنة المؤقتة في غزة. وفي لبنان دفعت "حزب الله" ومعه المعارضة لانجاح اتفاق الدوحة. في الوقت نفسه، التعاون الايراني ما زال مطلوباً لبقاء الهدنة المثلثة سارية المفعول. وهذا كله يتطلب تعاوناً ايرانياً مؤكداً لا يمكن التلاعب عليه، لأن النتائج على الأرض سريعة، فالنار ما زالت كامنة. لا أحد يمكنه ان يزيل الرماد عن النار ويرفع مسؤوليته عن ذلك.
سعيد جليلي بدا واضحاً جداً في كلامه عن هذه المحادثات. فقد قال: "هذه المباحثات تشبه سجادة ايرانية: التقدم فيها يتم قطبة قطبة. انه عمل دقيق جداً نأمل حين ينتهي بأن النظر اليها سيكون أمراً رائعاً". اما دنيس روس الخبير بالمفاوضات فقد قال "أتوقع مناقشات في شأن مناقشات مستقبلية، لأن العد العكسي في ايران لنهاية ولاية بوش جارٍ".
السؤال: هل يتابع جورج بوش انقلابه على نفسه فيحرق المراحل، ليحصل على انجاز يغطي به فشله التاريخي، فيعمل على دفع المفاوضات نحو نجاح غير متوقع مع الايرانيين؟ أيضاً ما هي قدرته على الدفع مسبقاً للايرانيين خصوصاً أنهم بخبرتهم التاريخية في تجارة السجاد والفستق الحلبي قادرون على مضاعفة الثمن الذي يطلبونه كلما رأووا ان الشاري معجب ببضاعتهم ويريدها حتى ولو كانت غالية الثمن؟.
لا شيء مستحيلا. لكن حتى ولو لم يحصل ذلك، وبقيت المباحثات محدودة، فإن كل هذا المسار يتقاطع بالعمق مع المسار السوري التفاوضي مع اسرائيل والانفتاح للعودة جدياً الى تحت "خيمة" الشرعية الدولية.
لذلك كله فإن نجاح أي "قطبة" في حياكة هذه "السجادة" تعني تثبيت "الهدنة" في العراق وغزة ولبنان، بانتظار "الربيع" القادم الذي ستدق فيه "أجراس" القرار النهائي بالحرب أو السلام.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.