يحلو لأي تونسي يلتقي أي لبناني، أن يقول بصوت عالٍ: "نحن شعب واحد". هذا الإعلان للهوية المشتركة بين اللبنانيين والتونسيين، فعل قائم ليس ناتجاً عن الشراكة بالعروبة أو الإسلام، أو الاثنين معاً، وإنما هي انشداد عميق وصادق نابع من علاقة أخوة تاريخية تعود إلى أيام الفينيقيين وأيضاً قرطاج والوجه التاريخي، هنيبعل عابر جبال الألب.
طبعاً هذا الإعلان التونسي العفوي والصادق، مهم جداً لتأكيد الوحدة القديمة ـ الجديدة، والتي تستحق التجديد عبر شراكة أوسع وأغنى على جميع الأصعدة. أيضاً يلاحظ الجميع أن الجغرافيا التي باعدت بين تونس ولبنان والتي وضعت الأولى في الجزء المغاربي من الوطن العربي، في حين أن الثاني قائم في قلب المشرق، لم تحل دون قيام تضاريس جغرافية تصيغ "طبْعاً سياسياً" مبنياً على الحذر الشديد الذي يصل أحياناً إلى مشارف القلق اليومي.
قدر لبنان أصعب وأخطر لأنه على "حافة سكين" المواجهة والمقاومة اليومية مع إسرائيل، قدر تونس أن تكون وسط مثلث جغرافي ـ أخوي يضم ليبيا والجزائر والمغرب بكل ما يفرق ويجمع بينهم وما يفرض من مزاحمة واحتكاكات معروفة.
ثمن الاستحقاق الدستوري
أيضاً وهو مهم جداً، أن التركيبة الطائفية للبنان النابعة من وجود 18 طائفة فرضت نظاماً سياسي ذا خصوصية غير مسبوق في العالم؛ أما تونس المتجانسة بسبب وحدة شعبها في طائفة واحدة، فإنها تعيش على وقع نظام سياسي فرض التجديد للرئيس بهدوء. هذا الاختلاف لخصه لبناني يزور تونس، بقوله "نحن ننتخب رئيس الجمهورية كل ست سنوات، لكننا ندفع ثمن ذلك حرباً أهلية أو باردة أو ساخنة مع كل استحقاق دستوري".
مناسبة هذا، أن تونس كانت طوال الأيام الأخيرة تعيش على وقع انعقاد مؤتمر "حزب التجمع الدستوري الديموقراطي"، الذي وإن كان حزباً يقوم وسط تعددية حزبية منصوصة في الدستور، إلا أنه عملياً هو الحزب الحاكم منذ عشرين سنة، وإذا ما اعتبر كما يعتبره الشاذلي القليبي الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية وأحد الوجوه التاريخية في تونس بأنه حزب النيو ـ دستوري، الذي كان يرأسه الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، فإنه يكون الحزب الحاكم منذ الاستقلال في العام 1956 والذي تضاعف عدد المنضمين اليه فأصبح 2.2 مليون عضو أي ربع الراشدين من التونسيين مما ألقى عليه مسؤوليات إضافية واسعة.
هذه التواصلية تؤكد أهمية مؤتمر الحزب خصوصاً وأن هناك نوعاً من الوحدة القائمة وبينه وبين السلطة.
الأهم هذه المرة أن انعقاد المؤتمر وهو الخامس قد بدأ التحضير له منذ عامين عندما طالبت قوى كثيرة داخل الحزب ومنها أساساً المرأة والشباب بضرورة التجديد للرئيس زين العابدين بن علي لولاية خامسة تتوافق مع الحد الأقصى الذي فرضه التعديل الدستوري بحيث لا يكون الرئيس لمدى الحياة وإنما لسن الخامسة والسبعين فقط.
هذه المسألة جرى الإعلان عنها بعد أن حلت أثناء التحضير للمؤتمر، وبذلك جرت مطالبة الرئيس بن علي بقبول الترشح لولاية خامسة، وهو قبلها في خطابه الافتتاحي.
طبعاً "رصيد" الرئيس ـ المرشح بن علي، تضخم كثيراً خلال عقدين من الزمن، مما فرض قبوله والترحيب به حتى من أحزاب عديدة من المعارضة.
"سلة" الرصيد
من ضمن "سلة" هذا الرصيد، أن بن علي نجح في فرض الأمن والاستقرار في تونس، ولو بثمن عالٍ أحياناً، وهذا المكسب المكلف، كان ضرورياً جداً لبلد لا يملك الكثير من الثروات الطبيعية التي تملكها ليبيا والجزائر، أولاً، وثانياً لأنه كان وما زال بلداً مفتوحاً أمام "رياح" الأصولية الإسلامية التي ضربت بطرق متفاوتة جداً الجزائر والمغرب وليبيا. وإذا كانت بعض "الجرائم" الإرهابية قد وقعت، فإنه جرى حصر ارتداداتها الخطيرة بحيث لم تنعكس على استمرارية الثروة السياحية.
وإذا كانت التنمية في تونس قد حققت نسبة عالية فإن التحدي الكبير يقوم على رفع نسبتها أولاً وتخفيض نسبة البطالة بين الشباب التي تبلغ رسمياً 14%، والعمل على ضمان وظائف جديدة تتناسب مع نسبة الشباب القادمة إلى سوق العمل، لأن هذا الإنجاز هو السلاح الأول لضمان الاستقرار وعدم حصول "انفجارات" اجتماعية واقتصادية.
الرئيس الزين، الذي عمل على دفع قطار التنمية إلى الأمام نجح في إنجاز علاقات متوازنة بين جيرانه. فكسب استثمارات ليبية ضخمة جعلت تونس الشريك التجاري الأول لليبيا، وفي الوقت نفسه ضمن توازناً حقيقياً لجارتيه المغرب والجزائر رغم كل ما يفصل أو يجمع بينهما. وليس أمراً هيناً الجمع بين هؤلاء خصوصاً وأن التعامل وحده مع القذافي يقتضي دائماً نوعاً من السير الدقيق بين الألغام، كل هذا وغيره مهم جداً، لكن الإشكالية الأساسية، وهي مستقبلية التي وضعت أمام المؤتمر: كيفية تحقيق هذه الاستمرارية وضمان تطورها، بحيث تتزاوج التنمية والاستقرار، وتخفيف الثمن المدفوع حتى الآن عبر مزيد من الدمقرطة والانفتاح. ويأتي كل هذا في مرحلة دقيقة تمر بها تونس والسلطة معاً، لأن بن علي كما يبدو يريد تطبيق الدستور، بحيث لا تتكرر "حرب الخلافة" التي وقعت في السنوات الأخيرة للرئيس الراحل الحبيب بورقيب، والتي أضعفتها كثيراً.
"التحدي"
هذه الإشكالية هي التي فرضت جو "التحدي" على الرئيس بن علي وبطبيعة الحال على "حزب التجمع". ويبدو أن بن علي الذي لا يريد أن تقع "حرب خلافة" تضيّع المكاسب التي حققها، وأيضاً يضمن استمرارية نهجه، عمل على تجديد الحزب جامعاً في الوقت نفسه بين القديم والجديد. من ذلك أنه جرى توسع الدائرة التي تضم "القدامى" أو ما يطلق عليهم اختصاراً "الحرس القديم" وأبرزهم: حامد القروي والهادي البكوش ورشيد صفر والشاذلي القليبي والطيب السحباني ومحمد الفنوشي وعلي الشاوش وعبدالله القلال والهادي مهني.
في الوقت نفسه جرى رفع منسوب المياه المتدافعة داخل خزان الحزب بالشباب، حيث ضمت اللجنة المركزية المنتخبة (350 عضواً) بتوجيه من "المايسترو" بن علي بما نسبته 77.4% من الشباب ونحو 38% من النساء، كما انتخب ربع أعضاء اللجنة من شباب دون الثلاثين من العمر.
هذا التغيير يجدّد الحزب الذي اعترف نائب الرئيس حامد قروي بأنه "فقد القدرة على تقديم أفكار جديدة"، فالشباب إذا ما تركت لهم حرية العمل والإنتاج، قادرون على تقديم أفكار جديدة ومنتجة. في الوقت نفسه يعمل "المايسترو" زين العابدين بن علي على إدارة المنافسة في إطار رؤيته ونهجه للاستمرارية والتطور، لكي يدفع إلى الواجهة "خليفة" قادراً على مواجهة تحديات المستقبل وإدارتها.
أخيراً كما يقول الشاذلي القليبي "يجب دفع الشعب لأن يحلم وإعطاء الشرائح الشعبية والشبابية الأمل بمستقبل يعتقدون بأنه مستحيل".
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.