لم يكن ينقص الأزمة القائمة في موريتانيا منذ أشهر ثلاثة سوى "عود كبريت" لكي تشتعل النار داخل القصر الجمهوري. ذلك ان موريتانيا تعيش مشهداً سياسياً مضطرباً انعكس بحدّة على حركة الشارع وداخل المقرّات الحزبية، وكما يبدو في قلب الثكنات العسكرية.
والموريتانيون كانوا يتوقعون انفجار الأزمة، وكانوا يتساءلون ما إذا كان التغيير الوزاري الذي حصل قبل أسابيع قليلة في نواكشوط قد أنهى الأزمة بعد حصول توافق بين العسكريين أولاً، والسياسيين والأحزاب ثانياً، وأن نتيجته الأولى فرض هدنة طويلة تسمح بأن يعيد كل طرف حساباته، أم أن ما جرى ليس أكثر من "تقطيع للوقت" حتى تكتمل ظروف التغيير.
طبعاً الموريتانيون وكما اتضح الآن من خلال ردود الفعل، كانوا يتمنون ويأملون ألا يقع انقلاب عسكري يطيح التجربة الديموقراطية الوليدة بعد إطاحة نظام معاوية ولد الطايع. لكن قرار الرئيس محمد ولد الشيخ عبدالله إقالة "الرجل القوي" في موريتانيا الجنرال محمد ولد عبدالعزيز قائد الحرس الجمهوري، والجنرال ولد شيخ محمد أحمد، بتهمة الوقوف وراء استقالة البرلمانيين (25 نائباً و23 من مجلس الشيوخ) وهم من "حزب العهد الوطني للديموقراطية والتنمية (عادل)" الذي ينتمي إليه الرئيس، فجّر الوضع وأنتج الانقلاب العسكري خصوصاً وأن بين المستقيلين أمين عام الحزب محمد ولد آبي.
هذا السبب المباشر للانقلاب لا يفسر كل شيء. والأزمة التي بدأت بتغيير وزاري كامل حيث تمت إقالة الحكومة التي كان يرأسها الزين ولد زيدان وتكليف يحيى ولد الواقف، أنتجت وزارة جنحت رغم كل مظاهر الارتياح التي أبداها الرئيس سيدي ولد شيخ عبدالله، نحو ترجيح كفة المعارضين بزعامة الجنرال عبدالعزيز قائد الحرس الجمهوري.
وتعود جذور الأزمة إلى السؤال الدائم وهو من يحكم موريتانيا: الجيش أم المدنيون؟.
وكان العسكريون قد جنحوا بعد تردّي الأوضاع في عهد معاوية ولد طايع إلى تسليم المدنيين السلطة عقب نجاح الانقلاب العسكري وهذا ما حصل قبل عام ونصف، فجرى انتخاب الرئيس سيدي ولد شيخ عبدالله المدني رئيساً للجمهورية. ويبدو ان الرئيس المدني المنتخب قد "صدق" أن العسكر دخلوا الثكنات ولن يخرجوا منها، فأخذ يصيغ دولة جديدة تقوم على تحالف بين أحزاب عدة، عمودها الفقري الحزب الذي يرأسه (عادل) وأحزاب من المعارضة تمثل القوميين والإسلاميين. وإذا كانت هذه التشكيلة قد لاقت في البداية ارتياحاً خارجياً، إلا أنها على ما يبدو شكّلت لاحقاً مقتلاً له، فاضطر لدى تشكيل حكومة الواقف إلى تقليص مشاركتهم إلى ثلاثة وزراء فقط.
الخبراء بشؤون موريتانيا يرون ان تسريع الانقلاب جاء نتيجة تقاطع الوضعين الداخلي والخارجي، دائماً فتش عن النفط. إذ يبدو أن موريتانيا التي بدأت تعرف نعمة النفط وإن كانت محدودة، انزلقت نحو مستنقع الاتهامات المتبادلة بالفساد والاستيلاء على بعض عائدات هذه الثروة الطارئة بدلاً من استثمارها، ولذلك اتهم وزيرا الداخلية والخارجية بالفساد.
وكانت المجموعات السلفية المنتمية إلى "القاعدة" نمت بقوة وبسرعة مستثمرة العداء الشعبي للعلاقات الرسمية بين بلادهم وإسرائيل، فنشطت وقامت بثلاث عمليات اخيراً هي:
* اغتيال السياح الفرنسيين، وقد تم إلقاء القبض على المجموعة، وقدم أعضاؤها إلى المحاكمة علماً ان أبرز أعضائها لسيدي ولد يسيدينا نجح أولاً بالفرار إلى غينيا بيساو، ثم عندما اعتقل فرّ من مبنى العدل، وكذلك الخديم ولد سمان الذي كان سابقاً في السجن وفرّ لمدة عامين ثم عاد ليشارك في عملية الاغتيال.
* الهجوم على السفارة الإسرائيلية، هذا الهجوم شكل تحدياً كبيراً للدولة ولإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية.
* الهجوم الذي كان مسرحه أحد الشوارع الرئيسية في العاصمة نواكشوط والذي أدى إلى مقتل شرطي وجرح تسعة من أفراد الأمن الوطني.
ولا شك ان تمدد "القاعدة" إلى داخل موريتانيا قد أثار قلق فرنسا الأقوى حضوراً في نواكشوط، وكذلك الولايات المتحدة الأميركية، ومما رفع درجة القلق ان المطالبة الشعبية بقطع العلاقات مع إسرائيل وطرد السفير الإسرائيلي، تحوّلت إلى مطلب مباشر من بعض القوى المشاركة بالنظام وأبرزهم رئيس المجلس النيابي مسعود ولد بلخير، وكذلك من نواب ووزراء حزب "الفضيلة" الإسلامي القوي.
بدورها باريس أصبحت تنظر كما يرى الخبراء إلى النظام رغم أنه مدني ودعمت وصوله، نظرة عدم ارتياح، لأنه عمد إلى دعم تصاعد التحرك العسكري الأميركي في موريتانيا مما زاد من النفوذ الأميركي في منطقة النفوذ الفرنسية هذه الحساسة جغرافياً وسياسياً، كما ان اطلاق النظام سراح سجناء سلفيين والترخيص لحزب إسلامي جديد وبناء مسجد داخل القصر الرئاسي زاد مخاوفها.
أياً كانت الطموحات الغربية بقيام نظام مدني في موريتانيا، فإن هذه الطموحات تقف عند حدود وجودها ومصالحها وأمنها القومي، ولذلك فإن الخلافات الداخلية بين العسكر والمدنيين تقاطعت مع مواقف غاضبة أو قلقة لفرنسا والولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، فكانت عودة العسكر إلى السلطة.
الجنرال عبدالعزيز قائد الانقلاب الحالي كان على ما يبدو يريد أن يشكل الرئيس شيخ عبدالله مرحلة انتقالية تمهد لعودة أعلي ولد محمد فال، ولذلك السؤال الآن في موريتانيا هل سيعود ومتى فال بقرار من العسكر، أم ان الجنرال عبدالعزيز صانع الرؤساء قد قرر أخيراً تسلم السلطة بنفسه.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.