هل على إيران إعادة حساباتها بعد الحرب الروسية ـ الجورجية؟ وبأي اتجاه؟
بلا شك، نعم!.
العالم بعد هذه الحرب المحدودة والصغيرة في منطقة القوقاز الحساسة جداً، والمليئة بالألغام تاريخياً، لن يكون نفسه كما كان قبل الحرب. هذه العمادة النارية، أعلنت نهائياً، ان العالم يتغير بسرعة. حتى الآن كانت يوميات الحرب في العراق وفي أفغانستان ترسم مظاهر التغيير وتؤكد محدودية القوة، حتى ولو كانت الولايات المتحدة الأميركية. زمن الاحادية في العالم الذي بدأ مع انهيار الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفياتي، وصل إلى مفترق طرق حاسم.
"حرب باردة" محدودة
موسكو البوتينية رسمت الآن مساراً جديداً، عماده انها عادت إلى المسرح الدولي، وانها لن تسمح لأحد بأن يلعب أو يتلاعب في "حديقتها الخلفية" فكيف في "عقر دارها". "الدب الروسي" نام أكثر من 16 سنة، ليستيقظ بكامل نشاطه معلناً أن لا أحد "يرقص" معه ويسلم. هذا التحول الانقلابي يؤشر جدياً إلى ان قواعد اللعبة تغيرت، وإذا لم يكن هذا التغيير بحجم قواعد الحرب الباردة التي قسمت العالم إلى معسكرين وأوقعت أكثر من مئة حرب اقليمية ومحلية، فإنها على الأقل تفتح فضاء التحولات على مسارات جديدة.
عندما تجرّأ الرئيس الجورجي ميخائيل سكاشفيلي على قصف مدينة أوسيتية سكانها روس، سقط في الفخ، لقد أعطى لموسكو الفرصة التي تنتظرها للرد بقسوة لكي تفهم كل القوى التي تشكل "ضواحيها"، انها موجودة. في البداية اعتقد الجميع وموسكو عبر سفيرها في الأمم المتحدة، ان العملية جرت بموافقة أميركية. الحقيقة التي ظهرت فيما بعد ان واشنطن ارتبكت، إلى درجة ان أوروبا التي يرأسها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وجدت في كل ذلك فرصة للتحرك منفردة لتضيف إلى رقص الدب الروسي إيقاعاً أوروبياً خاصاً. الصورة الآن مختلفة، ويبدو واضحاً ان رفض العملية الروسية جدّي، والعجز عن الرد في القوقاز أيضاً أكثر جدية.
الفارق كبير جداً بين ان تتحرك موسكو بموافقة أميركية ومعارضة أميركية، وهذا الفارق يغير السيناريو المستقبلي كلياً.
في الحالة الأولى، كان على طهران أن تخشى هذا التغيير وأن تستعد للتحرك وكأن عملية مقايضة واسعة قد جرت بين موسكو وواشنطن. ومن الطبيعي عندئذ ان على الايرانيين الأخذ بعين الاعتبار أن موسكو التي تحول مع مواكبة صينية دون اتخاذ قرارات ضدهم تبدأ بفرض الحصار ورفع نوعية العقوبات إلى درجة وضعها في اطار المادة 14 من البند السابع من ميثاق الأمم المتحد، وصولاً إلى حرب سواء كانت محدودة أو شاملة، قد قايضت جورجيا بهم، ولذلك انتهى اللعب في الوقت الضائع.
في الحالة الثانية، هذه الخسارة الأميركية لا بد أن يأتي الرد عليها قاسياً حتى لا يتوهّم أحد ان "النمر الأميركي الجريح" قد استسلم لقدره وقبل بالهزيمة والانزواء. فكما استعرضت موسكو قواها في جورجيا، لا بد أن تستعرض واشنطن عضلاتها في مكان آخر، وتحديداً الشرق الأوسط المنطقة الحساسة والاستراتيجية بالنسبة لها. ولأن استقواء موسكو بطهران في المنطقة خطر غير مقبول، فكل ما يضعف موسكو مطلوب، وإضعاف طهران جزء من اضعاف موسكو.
خيارات الرد
التصعيد في مواجهة التصعيد. ووسط منطقة الشرق الأوسط، يوجد الملف الأخطر، وهو الملف النووي الايراني. ليس بالضرورة أن يكون الرد عسكرياً، كأن يستيقظ العالم والصواريخ الأميركية تنهمر على مساحة ايران بهدف تدمير مواقعها النووية وايضاً كافة مواقعها ومراكزها العسكرية والأمنية وربما كل بناها التحتية، حتى إذا عادت ايران إلى أحضان واشنطن كما تأمل، تكون عودتها عودة المحتاج وليس القوي.
من الواقعي جداً القول ان نسبة استخدام الخيار العسكري ضد إيران قد ارتفعت بقوة بعد حرب جورجيا، وأن ما كان يشكل احتمالاً ضئيلاً أن يقع هذا الخيار في الفترة الواقعة بين انتخاب الرئيس الأميركي الجديد في الرابع من تشرين الثاني وتسلمه السلطة في العشرين من كانون الثاني، أصبح الآن أكثر جدية. واشنطن بحاجة كبيرة الآن إلى حركة سياسية مجلجلة لإعادة الاعتبار لحضورها وكلمتها في العالم. من الآن وحتى يتغير العالم وتحكمه تعددية الأقطاب يوجد فسحة من الوقت أمام "النمر الجريح" لتأكيد قوته وقدرته على الضرب بقوة.
نصيحتان جاءتا لطهران خلال هذه الايام، الأولى قبل حرب جورجيا والثانية بعدها. الأولى من العقيد معمر القذافي الذي وحده يجسّد الانقلاب على ذاته وتاريخه، وقد اختصر القول "بأن على إيران ان ترى من مات أي صدام حسين، وتأخذ العبرة من ذلك. والثانية من الرئيس التركي عبدالله غل وهو عاقل متمكن يعرف أهمية موقع تركيا ودورها، الذي أيضاً استعار من جارته العراق مثلاً عملياً حيث حدث أحمدي نجاد عن مصير صدام والدمار الذي لحق بالعراق. الزعيمان طالبا نجاد بـ"اعتماد خيار تفاوضي جديد وحقيقي ينطلق من عرض الدول الست" المتعلق بمعالجة الملف النووي.
هل تأخذ طهران بجدية احداثيات هذا التغيير وتبني عليه، أم تتابع مسارها القديم فتلعب على الوقت معتمدة سياسة التشدد في أكثر الأحيان، والليونة في بعض الأحوال على أمل أن يكون انتهاء المرحلة البوشية نهاية للانغلاق الأميركي نحوها، وفتح المفاوضات التي لا بد أن تكون على "سلة" متكاملة؟.
توازن القوى الايرانية
الرئيس أحمدي نجاد يمكنه دائماً التشدد والتظاهر بأنه لم يسمع ولم ير ماذا يحدث في العالم. لكن ليس نجاد الذي يدير ايران ولا هو يتحكم بصناعة القرار ولا حتى بتنفيذه. تركيبة السلطة في ايران أكثر تعقيداً من اختزالها بشخص أحمدي نجاد، فللمرشد آية الله علي خامنئي كلمة أساسية لأنها نتاج توازنات حقيقية لمراكز القرار وعلى رأسها "الحرس الثوري" والبازار.
الجواب على كل ذلك لن يطول، فالوقت أصبح محدوداً والمتغيرات تحدّ من اللعب أكثر فأكثر عليه. المسؤولية كبيرة جداً وهي تقع أساساً هذه المرة على عاتق طهران. أي خطأ في الحسابات أو أي سوء في التقدير، قد تكون نتائجه كارثية. يكفي استعادة تجربة الرئيس الجورجي وبؤس حساباته لمعرفة حجم الكارثة التي أوقع فيها بلاده.
المشكلة ان الحرب الجورجية ـ الروسية المحدودة يمكن حالياً التحكم في ارتداداتها على مساحة منطقتها لأن موسكو وواشنطن لا تريدان الانزلاق نحو مواجهة مفتوحة على مخاطر غير محدودة. في حالة ايران والمنطقة، المنطق يؤكد عكس ما يجري في القوقاز. ايران لن تتوانى عن تحويل أي مواجهة محدودة إلى مواجهة مفتوحة على مساحة المنطقة.
في حالة التصعيد في العقوبات لا بد أن تصعّد طهران في العراق ولبنان وغزة وربما في مناطق أخرى خصوصاً أفغانستان. في حالة الحرب العسكرية، ستسقط كل الممنوعات والمحظورات أمام ايران وبطبيعة الحال الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، فهما تنتظران ـ خصوصاً إسرائيل ـ مثل هذه الفرصة للعمل على حسم الموقف لصالحهما.
في الحالتين، الهدنة الطويلة ستسقط. هذه المرة سوريا ستكون في قلب المواجهة، فإذا وقفت على الحياد خسرت، لأنها ستضطر لنزع جلدها وليس مجرد تغيير ثوبها، وإذا دخلت المواجهة فإن مستقبلها معلق على نتيجة السير على حافة السكين.
أما لبنان، القابع في جميع الحالات في "عين الإعصار"، فسيتعرض لمخاطر لا بد ان ترسم مستقبله تبعاً للتضاريس الخارجة من هذه المواجهة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.