8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

استعجل الأسد "الحرب الباردة" فاكتفت موسكو بتقديم السلاح وطالبت اسرائيل بالمشاركة في مؤتمر السلام عندها

النفي السوري الرسمي لموافقة سوريا على نشر صواريخ "اسكندر" الروسية فوق أراضيها رداً على منظومة الدرع الصاروخية الاميركية في أوروبا، لا تلغي المفاعيل الأخرى لزيارة العمل التي قام بها الرئيس بشار الأسد لموسكو، لكن في الوقت نفسه تطرح أسئلة عديدة تحمل في طياتها إجابات مهمة.
زيارة العمل للرئيس الأسد كانت أصلاً مقرّرة قبل وقوع الحرب الصغيرة والمحدودة بين روسيا وجورجيا. وقوع تلك الحرب أضفى بعداً خاصاً على الزيارة، خصوصا بعد ان شكلت مادة دسمة على الارض لاتخاذ مواقف سياسية تذكر بتجارب سابقة وقديمة، ذلك ان طرح الأسد لتعميق التحالف مع موسكو العائدة إلى المسرح الدولي بقوة واستقلالية، مشدودة أولاً وأخيراً إلى الأمن القومي الروسي، يكاد يشبه وإن بظروف مختلفة ما أنجزه والده الرئيس الراحل حافظ الأسد في العام 1982. في ظلال الغزو الاسرائيلي للبنان، سارع الرئيس حافظ الأسد الذي كان يحسب كل خطوة يقوم بها بمكيال دقيق لا يفوته مسار الأوضاع والتطورات والممكن من غير الممكن، لزيارة موسكو التي أخفت عجزها امام الحرب في لبنان بكثير من ضجيج التصريحات، ليوقع اتفاقية دفاع مشتركة كانت موسكو قد عرضتها مراراً ووجدت من دمشق اذناً صماء.
الاتفاقيات بين الماضي والحاضر
هذه الاتفاقية لم تستثمرها موسكو لأنها كانت تعيش على وقع الزلزال القادم، لكن الرئيس الراحل حافظ الأسد استثمرها حتى آخر نقطة حبر فيها، مع الاميركيين وفي مواجهة الاسرائيليين، وكان من نتائجها تثبيت وجود سوريا في لبنان حتى اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وولادة "ثورة الأرز" وأيضاً التحول الاميركي العميق عن دمشق مما أنتج خروج القوات السورية من لبنان. هذا الخروج المر الذي لا يمكن للرئيس بشار الأسد بلعه أو هضم مرارته.
الآن الرئيس بشار الأسد يعلم كما يعلم الآخرون ان العالم على مفترق طرق حاسم، فالمرحلة التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة وانفراد الولايات المتحدة بالهيمنة على إدارة العالم قد انتهت، وعالم جديد يتشكل حيث للقوى الدولية مثل روسيا والصين والنمور الآسيوية وأوروبا دورها في عالم متعدد الأقطاب. إلى جانب ذلك، فإن للقوى الاقليمية القوية والحاضرة والقادرة على المدافعة عن قراراتها ووجودها دوراً يتناسب مع هذه المتغيرات ومنها ايران وتركيا واسرائيل وايضاً سوريا.
المشكلة ليست في هذا الطرح الاستراتيجي لأنه واقعياً صحيح، لكن المشكلة انه لا توجد حتى الآن صيغ تحدد الفترة الزمنية لبدء العد العكسي له، ولذلك فإن التشكيلات التي حصلت في السنوات الثلاث الأخيرة خصوصاً على الصعيد الاقليمي ما زالت هشة ويجب الانتظار ومتابعة تشكلها النهائي بعد خروجها من "دائرة النار" الحالية. والدليل على ذلك، ان لا احد يمكنه حالياً التأكيد نهائياً ما اذا كانت منطقة الشرق الاوسط وخصوصا ايران وحليفتها سوريا ستشهد حرباً قد تحسم الكثير من القضايا المعلنة، وما يعزز ذلك ان السيد حسن نصرالله حذر اخيرا من "الأعاصير القادمة إلى المنطقة".

"خط أحمر" روسي
عودة إلى زيارة العمل للرئيس السوري إلى موسكو. لا شك ان الأسد طلب انواعاً محددة من السلاح، وأن الخبراء سيبحثون ويتفقون على تفاصيلها، لكن من الواضح ايضاً ان موسكو ليست مستعجلة جداً لتوسيع دائرة المزاحمة وصولاً إلى المواجهة. موسكو أرادت وقد نجحت في ذلك، الالعاب رسمياً وعلى الارض، ان على الآخرين وتحديداً واشنطن أخذ عودتها جدياً في الاعتبار في كل ما يخص ويعني أمنها القومي. ما يساعدها في ذلك ان أوروبا تحتاج إلى غازها ونفطها لأن البديل عنهما نفط وغاز ايران، ولا داعي للدخول في عملية العرض الشاملة لأن تفاصيلها معروفة، ولا يبدو ان انقلاباً حقيقياً في المدى المنظور سيقع على صعيد العلاقات الاوروبية ـ الايرانية.
في هذه النقطة يقع النفي السوري لعرضها على موسكو نشر صواريخ "اسكندر" على أراضيها، فقد افهم الثنائي بوتين ـ ميدفيديف صديقهما الأسد ان الوقت ما زال مبكراً على ذلك. ربما الزيارات الطويلة للاسطول الروسي إلى ميناء طرطوس كافية حالياً إلى جانب استمرار التعاون العسكري وربما تطويره.
الرئيس الأسد حصل على هذا المكسب، ولكن ايضاً حصلت موسكو على ما يعادله، فهي عبر العرض ونفيه ابلغت واشنطن انها قادرة في الوقت الذي تحدده على التمدد في قلب منطقة الشرق الاوسط مما يعزز موقعها التفاوضي مستقبلاً، كما وضعت امام اسرائيل خطاً احمر لتعاملها مع دول الاتحاد السوفياتي سابقاً، فهذا العالم جزء من الأمن القومي الروسي بطريقة أو أخرى. وما فعلته سابقاً بتسليح جورجيا وكأن موسكو غير معنية بذلك، عصر قد انتهى. ومن هنا على اسرائيل "ان تخفض منسوب غطرستها" وتعمل على استشارة من يعنيهم الأمر. الاهم ان موسكو ستطالب تل ابيب بديلاً عن تمنعها نشر صواريخ "اسكندر" في سوريا، بالمشاركة السريعة في مؤتمر موسكو للسلام في الشرق الاوسط الذي طال صبرها على عدم انعقاده حتى الآن.
"صولد"
اما دمشق فإنها رفعت سقفها في التفاوض سواء مع اسرائيل أو الولايات المتحدة الاميركية معتمدة على الحلف القديم ـ الجديد مع موسكو، لكنها في الوقت نفسه تبدو وكأنها تلعب كما يقال "صولد"، فإن ربحت تربح كثيراً، وإن خسرت فإنها ستخسر كل شيء. في قلب هذه "اللعبة" المتضمنة "عدة ألعاب"، فإن الرئيس بشار الأسد وجه رسالة علنية عبر كلامه عن التشابه القائم بين المواجهة الروسية مع جورجيا حول ابخازيا ومواجهته مع بعض العرب والغرب حول لبنان، بأن للدول ذات المصالح الكبرى (وهو منها) "الحق بتشريع وجود حديقة خلفية" له، وهي في حالته لبنان.
في عز العزلة الدولية لسوريا، لم ينف احد بما في ذلك قوى الاستقلال والسيادة، بأن لسوريا مصالح مشروعة في لبنان وأهمها المتعلقة بأن لا يكون لبنان مقراً أو ممراً للعدوان عليها. المشكلة مع دمشق معرفة ما تعنيه بالمصالح المشروعة. ولا شك ان الفارق كبير جداً بين الفهم والتفهم اللبناني لذلك كله والبناء عليه في علاقات اخوية ومميزة، وبين ان يكون لبنان "حديقة خلفية" لا حدود لها ولا ابواب.
محاولة دمشق تشريع حالة لبنان بأنه "الحديقة الخلفية" لها، يعني ان عملية اقتحام هذه "الحديقة" ممكن في حالتي عدم الاستقرار الذي يمس الأمن السوري حسب تعريف دمشق، أو استتباب الوضع لحلفائها مما يطلق يدها في اعادة توزيع الادوار والمواقع.
مهما يكن، مسؤولية اللبنانيين كبيرة جداً في نجاح المشروع السوري في احداث هذا التحول، ولا داعي لرمي المسؤولية على موسكو الملتزمة بمصالح حليفها السوري، ولا على واشنطن التي تتعامل مع الاحداث والتحولات بواقعية حقيقية.
موسكو وواشنطن ودمشق يلعبون حالياً وفي وقت واحد على طاولتي بلياردو، الاولى تضم ثلاث كرات، الهدف منها اصابة واحدة عبر التصويب على أخرى، والثانية بعدة كرات الهدف منها جمع اكبر عدد من النقاط. هذه العواصم وغيرها تربح وتخسر هنا وهناك.
فقط من كان مثل اللبنانيين في هذا العالم يخسرون دائماً لأنهم ينقسمون بين مؤيد أو معارض للاعبين، مع انهم في قلب الرهان الذي سيتمّ تقاسمه.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00