عندما تسأل عن الوضع في العراق ومستقبله، تكون قد سألت عن لبنان وفلسطين وإيران والولايات المتحدة الاميركية بصيغ مختلفة ولكن دائماً في اطار "سلة" واحدة. كان العراق وما زال "قلب" منطقة الشرق الأوسط. الآن أصبح "قلب" العالم الذي يتشكل من جديد.
قراءات كثيرة ومختلفة ومتعارضة للوضع في العراق باختلاف مَن يقرأها ومَن يعرض نتائجها. من بينها قراءة ترى سواء وافقت عليها أو رفضتها جزئياً أو كلياً، "ان العراق زين وهو يتعافى حالياً ببطء ولكن بتصميم، وأن مرحلة النزاع التي عاناها وأفزعت العراقيين والعرب لمدة عامين من 2004 حتى 2006 انتهت، وأن العراق مُطمئن، فقد سقطت "العرقنة" رغم كل محاولات الزرقاوي و"الزرقاويين".
غياب الندم على الاحتلال
يذهب "المتفائلون" أبعد من ذلك ومنهم مَن هو في موقع المسؤولية: "لا نندم على الاحتلال الأميركي، لقد أسقط نظام صدام والاحتلال لن يبقى. الأميركيون سيرحلون من العراق والاتفاقيات ستؤكد على ذلك. الأميركيون أنفسهم ليسوا راغبين في البقاء واستمرار النزف الدامي. يعرف الأميركيون ان انخفاض نسبة العمليات ضدهم قرار ذاتي من المجموعات المسلحة للمقاومة، هذا القرار هو لترك الباب مفتوحاً أمامهم للخروج دون الشعور بالهزيمة لأن ذلك خطير ومؤثر في تركيبة العقل الأميركي وردّ فعله.
الخروج الأميركي من العراق، سواء تم قُبيل أو بُعيد عام 2011 ، يعني ضرورة أن يعمل العراقيون على ملاقاة هذا الحدث منذ الآن. النظام الحالي ليس سوى مرحلة انتقالية. لمواكبة هذا المستقبل بموافقة أميركية كما يبدو فإن القوى السياسية المدنية والعلمانية التي لا تنتمي إلى التيار الديني المتحالف والممسك بالسلطة وهما: حزب "الدعوة" و"المجلس الإسلامي الأعلى"، تستعد منذ الآن لمواجهة استحقاق الانتخابات التشريعية في العام المقبل. وهي ترى ان هذا التشكيل المدني المتحالف ايضاً مع التيار الصدري (الذي ما زال قوياً رغم ان قائده السيد مقتدى الصدر يتابع دراسته الدينية في حوزة قم في إيران)، سيكون حاضراً بقوة في المجلس التشريعي القادم وستكون له كلمته في إعادة تشكيل السلطة بعد أن يكون قد نجح في إعادة صياغة الخريطة السياسية.
يعترف "المتفائلون" ايضاً ان تضاريس الخريطة السياسية المقبلة ستختلف كثيراً عن الحالية. لن يتم إلغاء أي قوة سياسية وخصوصاً التحالف بين القوى الدينية، لكن التحالف المدني إلى حد ما، يجد امتداداً واسعاً له داخل الشيعة عبر الصدريين وأحزاب أخرى، والسنّة ايضاً وهو مهم جداً الأكراد. ويشدد هؤلاء على ان إنجازاً كبيراً قد حصل إلى جانب ضرب "القاعدة" التي لجأت أخيراً إلى النساء الانتحاريات عن ضعف وليس عن قوة، هذا الإنجاز هو في القناعة التي توصل إليها الأكراد الطالبانيون والبرازانيون على السواء، بأن مستقبل الأكراد العراقيين هو في العراق الواحد وتثبيت اللامركزية بأوسع صورها. انتهى الحلم بالاستقلال وبناء دولة كردية عراقية مستقلة في المدى المنظور على الأقل، لأن مثل هذه "الدولة" لا يمكن لها أن تعيش بين فكي كماشة تركية ـ إيرانية معنية مباشرة على صعيد وجودها وليس فقط أمنها.
سقوط حلم تركيا الاوروبي
مجرد عودة العراق واحداً، يعني ان كل مشاريع التقسيم و"العرقنة" قد سقطت. وهذا لا بد أن ينعكس بشكل إيجابي وفي العمق على جوار العراق العربي والاقليمي. بهذا المعنى وهذه النتيجة يمكن القول ان لبنان مثلاً قد توقف انزلاقه الذي كان سريعاً نحو "العرقنة"، وانه كلما انحسرت الرياح الساخنة "للعرقنة"، داخل العراق فإن النتيجة الطبيعية لها ابتعادها عن لبنان وغيره في المنطقة.
البناء على هذا التطور كبير جداً، رغم الاعتراف الواضح بأن النظام الأمني العراقي ما زال هشاً. وأن الدواء الحقيقي له موجود في إعادة بناء النظام الأمني الاقليمي، ويرى أصحاب هذه "الخريطة" ان "النظام الأمني العرقي، قد تخلخل لا بل سقط، وأن الوقت قد حان لإعادة بناء نظام جديد ولأسباب تتعلق بالوضع العربي الذي ساهمت الحالة العراقية إلى حد ما لوصوله إلى هذه الحالة، فإنه يتم العمل حالياً على إقامة حلف أمني جديد يساهم متى قام بتصليب الأمن العراقي".
هذا الحلف المطروح لبنائه والتأسيس، هو اساساً ثلاثي مؤلف من: ايران وتركيا والعراق. وعلى أن تكون سوريا عاملاً مساعداً فيه، فيصبح بذلك رباعياً يبعد صيغة "حلف بغداد" السابقة عنه. ما يساهم في ذلك ان تركيا عادت إلى الشرق وهي عادت بقوة، يدفعها إلى ذلك الشعور بأنها حتى لو قبلت أوروبا بها عضواً كامل الحقوق والواجبات فإن ذلك لن يتم قبل خمس عشرة سنة أو عشرين سنة، ولا يمكن لتركيا أن تبقى تنتظره أمام "الباب" الأوروبي طوال هذه السنوات مكتوفة الايدي. أما الأسوأ فأن يبقى على عدم انضمامها، فتكون بذلك قد خسرت الشرق ولم تربح الغرب، وهذا خطأ استراتيجي لن تقع فيه تركيا مطلقاً.
تركيا والتوازن
إيران أصبحت حاضرة في كل جزء على مساحة العراق والسلطة معاً. وهي بلا مبالغة تمسك بقوة بمفاصل القرار من الشيعة إلى الأكراد مروراً بالسنّة. كما ان هذا الوجود تحوّل إلى وجود عسكري سرّي مشكل من آلاف المسلحين المدربين الذين يأتمرون بقرار قيادة "الحرس الثوري" مباشرة. لذلك لا يمكن تجاهلها ولا مقاطعتها فكيف بمحاربتها، خصوصاً وأن إيران تعتبر العراق خط دفاعها الأول إن سقط فتحت الطريق أمام واشنطن إلى طهران.
الممكن في مواجهة هذا الوجود، الذي يعتبر الوجود السوري في لبنان طوال ثلاثة عقود صورة مصغرة عنه العمل على ضبط مفاعيله وتأطيره وهذا ممكن جداً في تحول تركيا إلى طرف مقبول في المعادلة الامنية في المنطقة، مما ينتج توازناً حقيقياً على مساحة منطقة الشرق الأوسط.
أما العرب فإن عودتهم مهمة وضرورية سياسياً لكن بدون أوهام، خصوصاً بكل ما يتعلق بحاجة العراقيين لهم. فالعراق ليس مديوناً، ولديه ودائع تتجاوز ستين مليار دولار في مصارف الولايات المتحدة الأميركية. ولذلك فإن كل خطوة يجب أن تكون مدروسة جيداً. مع خصوصية معلنة ان العراق كان وما زال يكن للبنان وللبنانيين شعوراً خاصاً، ارتفع منسوبه بعد المعاناة الدامية التي عانى وما زال يعاني منه أمنه الاجتماعي والوطني.
بعيداً في هذا "التفاؤل" سواء ووفق عليه أو جرى رفضه، فإن مسألة الحرب في المنطقة وخصوصاً الحرب الأميركية ـ الإسرائيلية ضد إيران تتباعد يومياً أكثر فأكثر. العراقيون الذين أصبحوا الأكثر معرفة بواقع الأميركيين بسبب معايشتهم اليومية لهم ومعهم، يعرفون لماذا احتمال الحرب بعيد. أما الخبراء منهم فيضيفون، في اليوم الذي يعلن في واشنطن العودة إلى التجنيد الإجباري، فإن ذلك اليوم سيغير تاريخ العالم وليس المنطقة.
حتى ذلك اليوم، فإن "خريطة طريق" جديدة يجري وضعها من القوى الكبرى والاقليمية، وما على هذه القوى خصوصاً الاقليمية منها سوى الصعود في "قطار" التغيير، برسم "خريطة طريق" خاصة بهم تحصنهم في مواجهة هذا المسار، إذا رأوا انه يحاصرهم ليهمشهم.
يبقى سؤال كبير مطروح أمام أصحاب مشروع "الحلف الرباعي"، إذا كانت تركيا قررت الاندفاع بقوة باتجاه الشرق، هل يعني ذلك استعدادها أو قبولها ببدء مسارها هذا، بالدخول في صراع محاور من أوله؟
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.