"يمطر" القلق بغزارة في عز آب فوق الشمال، من طرابلس الى وادي خالد، مروراً بكل القرى الفقيرة. هذه القرى التي حافظ اهلها على طبيعتهم البريئة والطيبة والكريمة، الى درجة انك تدخل منازلهم فلا تشعر بأنك الضيف بين اصحاب الدار، بل انك منهم وفيهم يشاطرونك كل شيء من رغيف الخبز الى قلقهم.
ينام اهل الشمال واعينهم مفتوحة، ينتظرون شروق فجر جديد، بعد ان مضى الليل بلا مفاجآت. في كل يوم، اشاعة جديدة تحمل معها القهر او الخراب تدخل كل منزل، بعد ان تكون قد عبرت الوديان والتلال الخضراء. في قرية "القنطرة" حيث لا يفصل الجامع عن الكنيسة سوى بضع شجرات من الصنوبر والعناب والخروب، يتساءل اهلها بحرقة واضحة عن الغدر القادم اذا ما تحققت الاشاعات وتم تنفيذها. دائماً يتحدثون عن الطابور الخامس وعن استغلال واضح لاجواء مشبوهة، تستثمر القلق الذي يزرع الخوف، فيجبر العائلات على التموضع والانغلاق، بدلاً من ان تبقى البيوت مفتوحة بعضها على بعض.
سكينة طرابلسية عشية رمضان
في طرابلس، لا تشعر بأنك عشية بدء شهر رمضان الكريم، بأنك تعبر مدينة تفرض طبيعتها وهي المجبولة على تدين عميق وحقيقي. السكينة كاملة في الاسواق، والجميع يحدثك عن تجربة يومية، عن الغد الذي تحاك من اجله كل الشرور لتشريع انزلاقها نحو تطرف لا يريده احد. شارع سوريا الذي يفصل باب التبانة عن جبل محسن، يذكر اي لبناني عاش اهوال الحرب الاهلية بطريق صيدا القديمة الذي يفصل بين الشياح وعين الرمانة. آثار الرصاص على كل حائط وأفعال الـ "آر.بي.جي" ماثلة مثل جروح منفتحة سوداء في بعض المباني. يشدد اي طرابلسي على ان ما يفصل أهل جبل محسن العلويين أقل بكثير مما يجمعهم بأهل التبانة. فالمصاهرات العائلية عديدة، والمصالح الاقتصادية مشتركة، لينتهوا بالقول "لعن الله اللاعبين والنافخين بالنار".
التشاؤم، محور الاشاعات والأخبار التي يتناقلها أهل الشمال. وهو يصاغ دائماً في سيناريوهات فيها الكثير من الواقعية الملونة بالأسود من القلق والخوف على مستقبل لا يريدونه إلا زاهراً لهم ولأولاهم، حتى لا يعود أهل القرى كما هم اليوم ومن وقت ليس ببعيد، نصفهم في اوستراليا وكندا، ونصفهم الآخر يمضي أيامه على جمر الخوف من الفقر أو الانفجارات الأمنية.
السيناريوهات المتداولة في الشمال لها صدى واسع في بيروت، بحيث لا يمكن إلا أخذها بجدية. من هذه السيناريوهات:
ـ يعرف الخصوم رغم كل ما يقال عن ان الفصل في هوية مجلس النواب المقبل وبالتالي تشكيل السلطة نهائياً بعد كل مفاعيل حرب تموز 2006 وما نتج عنها في الداخل، هنا في الشمال عند أهل السنّة رغم أهمية نتائج انتخابات المتن وكسروان المسيحية. مَن يمسك بالقرار في الشمال لا بد أن يفرض حضوره ووجوده في بيروت. "المستقبل" هو "عمود" الحالة السنّية في الشمال والمحاولات جارية من الداخل والخارج لمحاصرته وكسره. ولذلك فإن "السيناريو" الطبيعي هو محاولة عرقلة الانتخابات في الشمال، وإذا ما جرت فيجب أن تجري تحت خيمة الخوف، ولذلك من الواضح ان محاولات تجري يومياً لاشعال الشوارع ورفع سقف الأحقاد وبث روح الثأر التي تدمر ولا تبني. لذلك يتحدث الطرابلسيون عن ضرورة توسيع ""الجبهة الشعبية" وتصليبها. رغم هذا السيناريو، فإن الحملات الانتخابية بدأت باكراً في الفيحاء ومظاهرها العلنية واضحة من الصور الضخمة إلى جولات المرشحين والمفاتيح الانتخابية على الأسواق والتجمعات والعائلات. الفوز ضروري جداً ولذلك يجب العمل منذ الآن دون الانزلاق باتجاه الشلل بسبب القلق.
الخراب طريقاً "للعودة"
ـ ان دمشق تريد العودة إلى لبنان لأسباب معروفة منها ما هو ضروري لاستعادة وحدة المسار خصوصاً وأن المفاوضات مع إسرائيل ستصبح أكثر جدية مع مطلع العام القادم، ومنها ما هو لإلغاء مفاعيل مرارة الانسحاب وفقدان هذه "الرئة" الامنية والاقتصادية. لذلك كله، فإن المخطط هو في تزكية الخلافات بنار الأحقاد عبر تضخيم الخطر الأصولي. ولا يستبعد الطرابلسيون أن يتم اختراق شوارع طرابلس بأصولية قادمة عرفوا نوعاً منها ممثلاً بحركة "فتح الإسلام" وأن يتم نفخ دورها وخطرها عبر بعض العمليات الحدودية، بحيث يصبح التدخل العسكري السوري جزءاً من حق الدفاع عن الأمن القومي السوري، وهو حق مشروع دولياً، لا يمكن للغرب ولإسرائيل سوى الترحيب به. بعدها يمكن لهذا التدخل العسكري انتظار التطورات حتى يصبح ذلك نقطة الزيت التي ستتمدد حكماً بفعل اختراق تشكل النسيج اللبناني إلى عمق الداخل وصولاً إلى بيروت.
ـ ان دمشق تعرف جيداً، انه لم يعد من السهل تمرير الخطر الأصولي على لبنان والأمن القومي السوري والأمن الدولي بسبب الخبرات التي اكتسبها الغرب بتعامله معها. ولذلك فمن الافضل اشعال حروب صغيرة في القرى المختلطة بين المسلمين والمسيحيين، إلى درجة يتم من خلالها تهديد قرى مسيحية معزولة. هذا السيناريو الأسود الذي يمكن أن يبدأ في الشمال ويتمدد حتى الجنوب، سيدفع الغرب وخصوصاً باريس ـ الساركوزية إلى الترحيب بتدخل دمشق تحت لافتة إنقاذ المسيحيين فوراً. ولذلك كله كما تقول الاشاعات ان الفرقة العسكرية السورية التي ستدخل لبنان من الشمال اصبحت جاهزة عديداً وتجهيزاً وتدريباً، وانها تنتظر فقط أمر اليوم.
رغم سريان هذه السيناريوهات مثل النار في الهشيم من الشمال إلى بيروت، فإن قوى كثيرة ترى "ان العين بصيرة واليد قصيرة" لتنفيذها. ذلك أن الوضع منذ الحرب الروسية ـ الجورجية الصغيرة والمحدودة قد غيّرت الكثير من المعطيات، وانخراط الرئيس السوري بشار الأسد بسرعة في أجواء الحرب الباردة إلى جانب موسكو، لا بد أن يشعل الحذر منه في واشنطن إن لم يكن في باقي عواصم الحلف الأطلسي، لذا فإن انخراط باريس ـ الساركوزية المستعجلة على التحالف مع دمشق، وواشنطن المودعة لعهد بوش ـ تشيني، لن يكون سهلاً إلى هذا الحد.
كذلك ان الرئيس بشار الاسد، الذي يشعر كما ينقل العائدون من دمشق بأن أقدامه الآن مغروسة بالاسمنت بسبب ثقته المرتفعة بانتصاره، لن يقدم على خطوة تعطل مكاسبه الكثيرة التي يجنيها حالياً، ويرى امكانية رفع رصيده منها مع زيارة الرئيس نيكولا ساركوزي غداً إلى دمشق. إلى جانب ذلك فإن أجواء دمشق توحي لزائريها بأن لبنان ثمرة تنضج بسرعة، وفي نهاية الأمر ستسقط بين يديها مع الانتخابات التشريعية التي ستغير المعادلة نهائياً، بحيث تصبح المعارضة هي الأكثرية والعكس بالعكس. ومن الطبيعي أن هذا التحوّل سينتج عنه إعادة كاملة لتشكيل السلطة، ودائماً لمصلحتها وأهدافها وخصوصاً في "عودة وحدة المسار والمصير".
لا يكفي رفض أو ادانة أو إهمال هذه السيناريوهات، حتى تعود الطمأنينة إلى قلوب الشماليين اللبنانيين على مختلف طوائفهم وانتماءاتهم السياسية، مثلما يجري العمل منذ الآن وكأن الانتخابات التشريعية واقعة اليوم وليس غداً، يجب أيضاً التعامل بجدية كبيرة داخلياً وخارجياً لتطويق نوايا دمشق وخططها للعودة ـ وخصوصاً مع باريس ـ الساركوزية، وذلك بتقديم مزيد من الضمانات بأن لبنان لن يكون يوماً الخاصرة الضعيفة لسوريا، فهو يرى ان أمنه من أمنها مثلما أن قوتها قوة له.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.