ليست الواقعية السياسية وحدها هي التي قادت الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي على الطريق الى دمشق، وعقد قمة استثنائية مع الرئيس السوري بشار الأسد. طموحات ساركوزي بلعب دور رئيسي وفاعل الى جانب الولايات المتحدة الأميركية في عملية مفاوضات طويلة توصل الى سلام شامل بين سوريا واسرائيل، أساسية أيضاً في هذا التحول بنسبة 180 درجة للسياسة الفرنسية تجاه دمشق.
رهان نيكولا ساركوزي كبير جداً. انه يراهن بكل شيء لأنه يريد الدخول الى التاريخ. قيام السلام بين سوريا واسرائيل بمشاركته يفتح الأبواب أمامه على مصراعيها، الى جانب حصوله شخصياً على رعشة عاطفية طاغية طالما أرادها وأعلنها تكراراً تأكيداً منه لخصوصية علاقته باسرائيل.
تبادل "الهدايا"
كل من الرئيسين الفرنسي والسوري قدّم للآخر الهدايا المناسبة التي تفتح الطرق والقلوب. ساركوزي، أنهى القطيعة التي فرضها الرئيس جاك شيراك على الأسد ودمشق بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. هذه القطيعة التي انتجت العزلة الدولية على دمشق. بهذه العملية يكون ساركوزي قد فتح صفحة جديدة مع دمشق لا يمكن للأسد الا تقديرها وأخذها بعين الاعتبار، فقد نقلته مع النظام من قلب "عين الاعصار" الى موقع متقدم في التفاوض والطلب.
أيضاً ساركوزي أتى الى دمشق بعد أن حول الأسد ا لى "قطب" محوري في مشروع اقامة "اتحاد من أجل المتوسط". فهو وضع مسار العملية كلها معلقاً على مشاركة الأسد أو عدم مشاركته رغم وجود 44 دولة مهمة ومحورية على ضفاف حوض البحر الأبيض المتوسط. الى جانب ذلك، فإن "سلة الهدايا" الساركوزية مليئة وواعدة جداً خصوصاً على الصعيد الأوروبي والأهم الأميركي متى تم انتخاب رئيس للولايات المتحدة الأميركية.
الأسد بدوره يعمل على افادة ساركوزي بتقديم "الهدايا" له. علماً ان أوراق اعتماده الأولى والفعلية هي في البدء بمفاوضات غير مباشرة مع اسرائيل على طريق التحول الى مفاوضات مباشرة. هذه "الهدية" رغم أنها تعني سوريا أولاً وأخيراً ومصالحها الوطنية والقومية، الا انها بجميع المقاييس تشكل قفزة نوعية من دولة "الممانعة" الأولى في العالم العربي. كما ان "الهدية" الخاصة لساركوزي كانت في اعلان الأسد ومن باريس ان لفرنسا دوراً في المفاوضات مع الولايات المتحدة الأميركية، وهو ما قدمه الرئيس الفرنسي حجة لصحة موقفه أمام السفراء الفرنسيين في نهاية الشهر الماضي.
الهدف المشترك في مواقف الأسد وساركوزي هو العلاقة مع واشنطن. الأسد يريد تطبيع علاقاته مع باريس للدخول الى "الدار الأميركية" من الباب الخلفي لها. لأنه لو طبعت أوروبا كلها مع دمشق، ولم تطبع واشنطن معها، فإن ذلك يبقى عملية ناقصة بلا مردود فعلي. بدوره ساركوزي يريد أن يذهب الى واشنطن لدى تسلم الرئيس الأميركي المنتخب الرئاسة ومعه "أوراق اعتماده" للجلوس بثقة على طاولة مفاوضات السلام السورية ـ الاسرائيلية. الرئيس الفرنسي يطلب لنفسه الجلوس "كلاعب" رئيسي في المفاوضات، وليس شاهداً يرى ولا يشارك في القرار. لذا فإنه يريد لعب دور "الشريك الضامن" من خلال تقديم ضمانات على الصعيد الأمني. بهذا تكون الرعاية الفرنسية للمفاوضات موازية للرعاية الأميركية.
السيادة والاستقلال والمقايضات
طبعاً ليست القمة أحادية الاهتمامات والمفاوضات. توجد ملفات أخرى وأهم على المدى القصير ومنها لبنان وايران. في ما يتعلق بلبنان فإن ساركوزي يرى أنّه أخذ مع انتخاب الرئيس ميشال سليمان ما يؤكد "صحة ثقته" بالتحول السوري من لبنان، لكن ساركوزي يعلم جيداً أن هذه العملية ليست سوى خطوة واحدة من رحلة الألف ميل رغم اقترانها بوقف مسار الاغتيالات فجأة مع تمدد تهديدات الانفجارات الأمنية من طرابلس الى بيروت. لذلك تؤكد باريس انها "ستبقى يقظة" وهي تتابع مفاوضاتها مع دمشق. لكن من المؤكد أيضاً ان باريس أصبحت تحسب حساباً لدمشق وهي تتعامل مع ملف لبنان. أيضاً انتهى زمن الالتزام الفرنسي الكامل بأفضلية لبنان ومستقبله على باقي الحسابات والمصالح.
تستطيع باريس أن تقول انها ما زالت متعلقة بحصول لبنان على كامل استقلاله وسيادته ومحافظته عليهما، وان المحكمة الدولية اصبحت شأناً دولياً لن يؤثر عليها تطبيع العلاقات السورية ـ الفرنسية. لكن لا يوجد اي شيء يضمن بأن لا تتحول المحكمة الى "محكمة بلا محاكمة"، خصوصاً اذا ما وضعت دمشق يدها بشكل كامل على السلطة والقرار اللبنانيين اذا ما ربحت المعارضة الملتزمة بالقرار السوري الانتخابات التشريعية المقبلة. أما بالنسبة للملف الايراني، فيبدو أن باريس فهمت جيداً حدود الدور السوري وقدراته مع طهران بعد ان اضطر الرئيس الاسد الى الاعلان من طهران بأنه لم يحمل رسالة فرنسية لها وليس مستعداً للعب دور الوسيط مع ان باريس أكدت وتؤكد انّها كلفت الأسد حمل رسالة الى القيادة الايرانية بخصوص الملف النووي وعدم حصول ايران على السلاح النووي.
يبقى انه من الصعب المفاضلة بين القمة الثنائية والقمة الرباعية التي تضم الى جانب الاسد رئيس القمة العربية وساركوزي الرئيس الأوروبي حالياً وامير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني الذي يتسلم رئاسة مجلس التعاون الخليجي ورجب أردوغان رئيس وزراء تركيا اللاعب الكبير حالياً في الشرق الأوسط، هذه القمة اقليمية يستطيع كل واحد منهم أن يجني القوة لذاته ولبلاده. وهي تشكل أساساً مدخلاً لقيام تحالف جديد يؤسس لمستقبل يراه ساركوزي عالماً متعدد الأقطاب تعتمد فيه كل قوة دولية على تحالفات مع دول ارتكاز في اقاليمها.
مسار كل القمتين يؤكد ان سوق المطالب والعروض و"الهدايا" والوعود غني جداً.
ما يعني لبنان واللبنانيين أن لا يستفيقوا يوماً وهم قابعون في مستنقعات خلافاتهم الطائفية والمذهبية ويجدوا أن البحث قد شمل العودة الى وحدة المسار والمصير، وأنهم مدعوون الى طاولة المفاوضات مع اسرائيل كما يطمح ساركوزي والاسد معاً، وأنهم أخيراً كانوا جزءاً من عملية مقايضة واسعة، الآخرون "أكلوا فيها الحصرم وهم يضرسون".
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.