ليبيا محطة في الجولة المغاربية لوزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس. الجولة تشمل إلى جانب ليبيا، الجزائر والمغرب وتونس. لكن بلا شك فإن المحطة الليبية مميزة، حتى إنها بلا مبالغة تاريخية. المقاطعة الأميركية لليبيا لم تبدأ مع ثورة الفاتح في أيلول 1969، لقد بدأت قبل ذلك بسنوات قليلة، آخر مسؤول أميركي زار طرابلس كان ريتشارد نيكسون بصفته نائباً للرئيس دوايت ايزنهاور عام 1957، وكان قد سبقه قبل أربع سنوات وزير الخارجية الذائع الصيت جون فوستر دالاس. طبعاً، إخلاء الأميركيين لقاعدة ويليس مهّد للمقاطعة، وكانت الضربة القاضية تأميم طرابلس لقطاع النفط عام 1970، حتى إذا جاء العام 1972 وقعت القطيعة وتم سحب السفير الأميركي.
شريط المواجهات
المقاطعة والقطيعة تحوّلتا مع الزمن إلى مواجهات عسكرية كما حصل في العام 1981 عندما أسقطت المقاتلات الأميركية مقاتلتين ليبيتين، وباقي المسلسل معروف حتى جريمة طائرة لوكربي وما استتبعها.
عرض هذا الشريط ضروري، لمعرفة مغزى ما حصل وأهمية ما يحصل الآن. تحوّل الزعيم الليبي معمر القذافي بعد وفاة الرئيس جمال عبدالناصر إلى "أمين للقومية العربية" ثم إلى داع للثورة العالمية، التي إذا لم يأته تنظيم ثوري من أقاصي الأرض طلباً لدعمه بالمال والسلاح، بحث القذافي عنه حتى ولو كان في أدغال الامازون وعلى قمة افرست. هذه العلاقة اختلطت في بداياتها "بالبراءة الثورية" بمحاولة الدخول إلى التاريخ جنباً إلى جنب مع ما وتسي تونع وتشي غيفارا حملته أحياناً ما ليس بطاقته ولا رغباته.
الآن وبعد أن أصبح القذافي "ملك ملوك وشيوخ القبائل الافريقية"، يقع التطبيع الأميركي معه. لقد دفع القذافي ثمن هذا التطبيع غالياً بعد أن تحمّل بنفسه أوزار جريمة تفجير طائرة لوكربي وضحاياها، لقد دفع القذافي المليارات أولاً تعويضاً لأهالي ضحايا الطائرة، كما تخلى عن "أحلامه النووية" كما طلب منه وأقرّ به، إلى درجة أنه قدم نفسه مثالاً إلى جانب الرئيس السابق صدام حسين، أمام الايرانيين في حال لم يسمعوا كلمة واشنطن ومعها الغرب، وتوقفوا عن عنادهم لامتلاك الطاقة النووية.
"سعادة" كوندوليزا رايس كما قالت بنفسها نابعة من "القرار التاريخي الذي اتخذه القذافي بالتخلي عن أسلحة الدمار الشامل والإرهاب"، بكل وضوح حددت رايس حجم الثمن الذي دفعه القذافي طلباً لمصالحة لا يريد الأخير منها أكثر من أن تترك واشنطن طرابلس "بخير".
حالياً، طموح الرئيس السوري بشار الاسد التطبيع مع واشنطن، ومن ثم رعايتها للمفاوضات المباشرة مع إسرائيل. والسؤال ما هو الثمن الذي ستطالب واشنطن الاسد بدفعه لاتمام المصالحة والتطبيع وصولاً إلى الرعاية؟
لا يمكن لواشنطن في العام 2009، وكائناً مَن كان في البيت الأبيض جون ماكين أو باراك اوباما، ان تقبل بمطالب الاسد دون مقابل. سياسة واشنطن الاستراتيجية ليست نتاج شخص الرئيس فقط، إنها صياغة نظام مؤسسات لا تأخذ بعين الاعتبار سوى مصالح أميركا الاستراتيجية.
المطلوب من الاسد معروف جداً، إذ ليس لديه المال ليقايض به كما فعل القذافي. لديه التحالف مع إيران، وحلم واشنطن سلخ دمشق عن طهران، لإبعاد يد الأخيرة عن ضفاف حوض البحر الأبيض المتوسط والملف الفلسطيني، وعلاقاته مع "حزب الله" وحركة "حماس" والعراق. هذه الملفات أساسية واستراتيجية لواشنطن ومنها ما يمسّ مباشرة أمنها القومي مثل الملف العراقي.
حتى الآن يشدّد الرئيس الأسد على رفضه للمقايضة، لأنه يعلم جيداً انه لا يمكنه الذهاب إلى التفاوض عام 2009و"سلته" فارغة، بالعكس عليه أن يضيف إليها ما يمكنه، لأنه كلما رفع رصيده من الأوراق المهمة نجح أكثر في المفاوضات، لكن واشنطن ليست بيروت، وهي تعرف أكثر من غيرها أين تضغط وكيف توجع.
الوعد والثمن
حالياً، يبدي الاسد "نواياه الطيبة"، ومنها ان لبنان سيلحق دمشق على مسار المفاوضات المباشرة بمعنى إذا قبلت واشنطن رعاية هذه المفاوضات، فإن "هديته" انضمام لبنان إلى هذا المسار. منذ الآن يقول الكثيرون لماذا العجلة والكلام عن الاستعدادات المطلوبة لهذا الاستحقاق؟ بمعنى آخر يجب انتظار ما سيحصل بعد ذلك لكل حادث حديث!.
إذا كان ذلك صحيحاً، فإن على اللبنانيين وخصوصاً "حزب الله"، متابعة حياتهم الهادئة والآمنة جداً، حتى وصول الدعوة المضمونة للانضمام إلى طاولة المفاوضات على أساس وحدة المسار والمصير. والثابت في هذه الحالة ان ما طُبخ يكون قد طُبخ. فالمعروف ان المفاوضات غير المباشرة تعمل على إنضاج "الطبخة" حتى إذا انتقل المتفاوضون إلى المرحلة التالية يكون قد انتهى كل شيء. أكبر دليل على ذلك ان الجولة الخامسة التي أجّلت بين السوريين والإسرائيليين إلى 18 من الشهر الجاري برعاية تركيا، ستناقش أي حدود ستعتمد توصلاً للحل، حدود الرابع من حزيران من العام 1967 أم حدود الانتداب؟ بهذا التحديد سيعرف كل شيء، ألم تفشل مفاوضات جنيف مع الرئيس الراحل حافظ الاسد لأنه رفض الحدود التي عرضت عليه، وأصرّ على أن تشمل الحدود ضفاف مياه طبريا ليتمكن من وضع قدميه في مياهها؟
الوعد الذي قطعه الرئيس السوري بحضور الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بانضمام لبنان إلى المفاوضات المباشرة، يعني ضمناً تكفله بمعالجة عقدة "حزب الله". أمام هذا "الوعد" فإن إشكالية نشأت بين دمشق و"حزب الله"، وكلام السيد حسن نصرالله عن عدم تخلي المقاومة عن سلاحها حتى ولو عادت مزارع شبعا، هو كما يبدو جزء من هذا السجال العلني لأول مرة، ولذلك فإنه يمكن فهمه بدون مبالغة، بأن "الحزب والمقاومة لن ينتظرا نتائج المفاوضات غير المباشرة حتى يتخذا موقفاً يحميهما من مقايضات المفاوضات عندما تصبح مباشرة.
بعد "محطة" طرابلس ستتابع رايس جولتها المغاربية، فلديها هناك هموم محاربة الإرهاب النامي في المنطقة إلى درجة التحضير لاقامة قاعدة عسكرية أميركية في القارة الافريقية. أما المشرق العربي فله يوم آخر. أما اللبنانيون فأمامهم المزيد من المناخات خصوصاً وأن نمو الخطر الأصولي في الشمال أصبح يخيفها إلى درجة ان محاربته قد تصبح "لجسر" إلى لبنان.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.