الإعلان عن بدء العد العكسي لتشكل عالم متعدد الأقطاب جاء متقارباً ومتلازماً تقريباً، ولكن بطريقتين مختلفتين من موسكو وباريس. الأولى، اقتنصت الغباء والسذاجة أو الضحالة الفكرية والسياسية لا فرق للرئيس الجورجي، وشنت حرباً خاطفة ومحدودة على بلاده جورجيا، لتقرع بذلك "الجرس" بأن "الدب الروسي" قد استفاق وأن "الرقص" في "فضائه" الجغرافي والسياسي على وقع عزف واشنطن والأطلسي لم يعد مسموحاً بعد اليوم. روسيا عادت إلى المسرح وعلى الجميع أخذ ذلك في الاعتبار. لم يكتف "الدب الروسي" بذلك، بل سارع إلى القفز إلى "الحديقة الخلفية" للولايات المتحدة في أميركا اللاتينية التي تحولت معظم دولها إلى اليسار، فأكد تحالفه مع فنزويلا إلى درجة انتقال اسطوله إلى مياه الكاريبي. ربما كان القادم أعظم مع دول أخرى مثل نيكاراغوا.
باريس السعيدة جداً بمقولتها التاريخية التي تعود تقريباً إلى بداية الثورة، بأنها غنية بالأفكار وإن لم تكن غنية بالثروات الطبيعية، رمى رئيسها نيكولا ساركوزي بأفكاره حول تشكل العالم المتعدد الأقطاب في خطابه السنوي أمام السفراء الفرنسيين في جميع دول العالم المجتمعين في مؤتمرهم السنوي لمعرفة "خريطة طريقة" ديبلوماسية بلادهم طوال عام 2009. الرئيس نيكولا ساركوزي أرفق "الفكرة الجديدة" بتحرك ميداني سريع، فجاء إلى الشرق عبر دمشق، ليؤكد ان لفرنسا موقعا له، يشرع مطالبته بلعب دور أساسي في عملية البحث عن حل شامل للنزاع السوري ـ الاسرائيلي يتم من خلاله صناعة السلام في هذه المنطقة الحساسة التي انفرد الأميركيون بها ولم يصنعوا هذا السلام.
صفحة أميركية جديدة في المغرب
واشنطن التي لا أحد يتمتع بحجم البراغماتية التي تعتمدها نهجاً لكل سياستها، أكدت أولاً انه ليس لديها أعداء دائمون، وطبعاً أصدقاء دائمون، بعد لقاء كونداليزا رايس وزيرة الخارجية مع الزعيم الليبي معمر القذافي، وبذلك طويت صفحة مليئة بالمواجهات لتفتح صفحة بدايتها التطبيع الكامل والشامل. ثانياً اعتبرت انه "لم تعد توجد ثغرة بالنسبة لبلادها" في منطقة المغرب العربي الذي تجولت بين عواصمه الجزائر والرباط وتونس مستثنية نواكشوط حتى لا يقال انها تدعم عودة العسكر بعد الانقلاب الأخير. النتيجة أنه يمكن لواشنطن منذ الآن "اعتماد منهج موحد لمواجهة التحديات في منطقة المغرب العربي.
أولى ثمار هذا المنهج الموحد تكمن في المساهمة في حل النزاع بين الجزائر والمغرب حول الصحراء الغربية المتضمن وجود البوليزاريو، هذا النزاع الذي لم تستطع فرنسا طوال عقود حله أو وضعه على الأقل على "سكة الحل". التزاحم والتنافس واضحان رغم عودة التحالف بين باريس ـ الساركوزية وواشنطن. اللعب الفرنسي في الحديقة الخلفية لواشنطن في الشرق لم يمر بدون اعلان واشنطن عن سرعتها وقدرتها باللعب في "الحديقة الخلفية" لفرنسا في المغرب العربي.
لم يوجد أي شك بأن "حرباً باردة" من نوع جديد مختلف حكماً عن الحرب السابقة بين العملاقين السوفياتي والأميركي قد بدأت، وأن هذه "الحرب" المتعددة الأقطاب لن تكون على مستوى الدول العظمى القديمة والمتشكلة حديثاً فقط، وإنما أيضاً على مستوى دول اقليمية تعمل على أن تحتل موقعاً مميزاً يفرض على القوى الدولية الجديدة أخذ موقعها ودورها في الاعتبار في كل حساباتها، فالعالم المتعدد الأقطاب لن يكون نادياً مقفلاً، بل سيكون مفتوحاً لجملة قوى تتشكل أيضاً حديثاً وبسرعة على المستويين العالمي والاقليمي معاً.
أطرف ما في هذه "الحرب" الجديدة، أنها تتضمن مثل كل "الحروب" مواجهات إعلامية يختلط فيها حابل الوقائع بنابل الاتهامات، من ذلك ان واشنطن تتهم روسيا "باستخدام النفط اداة للقوة والهيمنة"، أما ما فعلته الأولى خلال خمسة عقود أو أكثر لوضع يدها على "شرايين" هذا "السلاح" من منابع إنتاجه كما حصل أخيراً في العراق إلى مصباته، ليست للهيمنة وإنما "لإسعاد العالم".
ما يهم منطقة الشرق الأوسط من كل هذه "الحرب" التي ستتعدّد دوائرها ومواجهاتها، كيفية تشكل القوى الاقليمية فيها وعلى حساب مَن العراق الذي كان قوة اقليمية يحسب لها ألف حساب، سحب من التداول إلى حين، لكنه اذا استقر وضعه أو على الأقل عاد الهدوء إليه وقام فيه نظام متوازن فله زاوية يمكنه من خلال التحالفات أن يكون حاضراً. حتى ذلك الحين توجد ايران. كلما ابتعدت الحرب الأطلسية ـ الاسرائيلية ضد ايران، ازدادت حضوراً وقوة ونفوذاً. رغم ذلك، لا يمكنها وحدها أن تفرض شروطها وقواعدها. لذلك هي مضطرة للتحالف بطريقة أو أخرى مع تركيا التي وسعت كثيراً من مساحة حركتها واهتماماتها. تركيا أصبحت موجودة بقوة في ملف النزاع السوري ـ الاسرائيلي، وهي موجودة في البلقان والآن ذهبت إلى القوقاز قافزة فوق افرازات التاريخ المعقدة مع أرمينيا، كل ذلك تحت شعار المشاركة في "بناء الاستقرار والسلام".
لا يمكن ذكر ايران وتركيا دون الشعور بالفراغ الكبير الموجود بسبب غياب مصر عن كل هذه اللعبة. لا يمكن أن يحصل استقرار حقيقي دون أن تدخل مصر على معادلة التوازن في المنطقة. لذا يجب استعجال عودة مصر المنكوبة حالياً بالكوارث من جميع الأنواع.
أيضاً لا يمكن وضع خريطة للمنطقة على طريق التشكل دون أن تكون سوريا في صلبها. دمشق الخارجة من العزلة تتحرك حالياً وكأنها تملك "مفاتيح" المنطقة، مع أنها فعلياً لا تلمحها وإن كانت تعرف بعض تكويناتها وأرقامها. دمشق التي تستعد بقوة وبخطة مدروسة كما يبدو لأخذ موقع لها في هذه المنطقة التي تتشكل بسرعة، ترى أنها بقدر ما يكون صوتها وحضورها علنياً في الملفين اللبناني والفلسطيني بقدر ما تنجح في دخول "نادي الدول الاقليمية" شرعياً وباعتراف غربي ـ أميركي علني ومثبت.
دمشق التي كما يؤكد الذين لم ينقطعوا عن زيارتها منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، لم تبلع بعد مرارة الانسحاب العسكري والأمني من لبنان، وهي تريد العودة بأي طريقة وأي ثمن وبموافقة دولية غربية ـ أميركية، حتى يمكن للرئيس بشار الأسد أن يقول للجميع بأنه لم يفرط ولم يضيّع إرث والده الراحل حافظ الأسد، وأيضاً لكي يحصل من اسرائيل على أقصى ما يمكنه.
عودة دمشق إلى لبنان عبر "بوابة الشمال" في لبنان أو عبر البقاع، وبالتكليف الدولي لضرب الإرهاب أو حماية المسيحيين مطروحة جدياً وليست مجرد حملة من القوى اللبنانية المتعلقة بالحرية والسيادة والاستقلال. ولا شك أن أول وكبير الخاسرين من هذه العودة مهما كانت المكابرة أو ضخامة السلاسل التي تقيده نتيجة للوضع الميداني، هو المقاومة.
ربما "حزب الله" سيجد نهجاً سياسياً يتلاءم مع تغير المعادلات ليبقى، أما المقاومة فإنها ستجد نفسها بين "السندان" الاسرائيلي على الحدود حيث لا يمكنها الدخول في مواجهات عسكرية دون قلب الطاولة كلها، وهذا لا يمكن أن يكون قراراً أحادياً، فللحلفاء خصوصاً إيران موقع في ذلك إلى جانب الالتزامات ا لمعروفة في القرارات الدولية، و"المطرقة" السورية التي ستتمدد من الشمال والبقاع لتمسك بكل "شرايين" السلاح والحركة لتفرض بها وبعدها قواعدها وشروطها عليها.
أمام ذلك تصبح عملية المصالحة في الشمال جزءاً بحجم لبنان واللبنانيين لمواجهة المتغيرات والتغييرات الاقليمية القادمة. لبنان لن يكون يوماً لاعباً اقليمياً، لكن على الأقل يجب العمل حتى لا يكون دائماً "كرة النار" التي يهدّد الآخرون برميها كلما دعت الحاجة، أو كما يبدو الآن بالعمل على اطفائها للحصول على جوائز أو هدايا حقيقية أو للترضية.
كلما نجحت المصالحة فعلياً في الشمال بدعم ومشاركة من الجميع وخصوصاً "حزب الله"، يكون ذلك في مصلحة الجميع خصوصاً المقاومة و"حزب الله".
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.