الهدنة التي فرضها اتفاق الطائف، كانت وما زالت هشة. لم تتبلور حتى الآن المعطيات الضرورية والمتكاملة، لكي تصلب وتفرض مساراً حقيقياً ونهائياً حلاً كاملاً يرضي جميع الأطراف، ويؤسس لقيام دولة قوية ومتماسكة، لا يبقى مصيرها معلقاً فوق بركان التطورات والتغييرات الخارجية والداخلية معاً.
اختراقات أمنية مؤلمة
تقاطع الظروف الدولية والخارجية، فرض هذه الهدنة. عدم التوصل اليها وعودة الفرقاء اللبنانيين الى لبنان من دون اتفاق، كان يعني حكماً تحوّل الحرب الأهلية الباردة الى حرب أهلية لا تبقي ولا تزر. الخوف من هذا التحول، فرض الهرولة والمسارعة الدولية والاقليمية لإبعاد لبنان عن النار المشتعلة. لم يكن غرق لبنان في مستنقع مليء بأقذار ومآسي "العرقنة" و"اللبننة" معاً، من مصلحة أحد. هذه المرة، لم يكن أحد فوق "السكين". الجميع كانوا تحت حدّها القاتل.
ذهبت التقديرات حول طول الهدنة واستقرارها، في مناحٍ عديدة. لم يصدق أحد أن لبنان خرج من نفق الاغتيالات والاهتزازات والمواجهات، رغم التباشير الطيبة التي تبلورت في انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وتشكيل حكومة جديدة برئاسة فؤاد السنيورة الذي كان هدفاً للتصويب عليه لدى المعارضة بكل "الأسلحة" وبلا محرمات، وأيضاً تعيين قائد للجيش. الدليل، تنقل الصدامات المسلحة من الشمال الى البقاع والعكس صحيح.
لم تنتهِ الامتحانات اليومية في "الإشكالات الفردية" التي تتحول الى اشتباكات يختلط فيها السياسي بالمذهبي، جاء اغتيال الشهيد الشيخ صالح العريضي ليؤكد مرة أخرى، أن لبنان ما زال في مرمى النار، وأن هذه الديمومة مستمرة حتى ولو كان ذلك يخرق بعض القواعد، التي يثبت اختراقها، أنه لا ممنوعات. الشيخ الشهيد كان "رجل التقاطعات" الصعبة في الجبل. ليس هيّناً أن يكون "الشيخ الإرسلاني"، رجل الحوار والتواصل بين الزعيمين وليد جنبلاط وطلال ارسلان بكل ما يعني ذلك من توحيد للقوتين في الجبل، مما يغير كل المعادلات السابقة. أيضاً هو رجل الحوار مع "حزب الله" وأيضاً مع سوريا. في مرحلة، فُتح الحوار فيها بين الفرقاء في بعبدا، يصبح توجيه "الرسائل" عبر مثل هذا الاغتيال سائداً.
رغم كل الخطورة التي تعرّض لها الجميع في هذا "الامتحان" الخطير، بقي الوضع متماسكاً. والهدنة لم تسقط، كما لم تسقط نتيجة أحداث طرابلس ولا سعدنايل، ولا يبدو أن هذه الهدنة ستسقط أمام "جرائم" أخرى قد تكون أخطر مما حصل حتى الآن، فجميع القوى تريد بقاء هذه الهدنة قائمة حتى إشعار آخر.
غداة اتفاق الدوحة قيل إن الهدنة هي لأشهر قليلة تستمر حتى نهاية العام الحالي، بعدها لكل حادث حديث. ليس بالضرورة العودة الى الحرب الأهلية الباردة، لكن يجب عدم استبعاد أي احتمال. في حالة لبنان المستحيل ممكن، فكيف بالممكن؟.
الرهان حول الفترة الزمنية للهدنة، كان يدور وما زال حول معرفة نتيجة الانتخابات الرئاسية، ومن سيدخل البيت الأبيض. ربط الأزمة في لبنان التي هي عدة أزمات في أزمة واحدة، بالانتخابات الرئاسية الأميركية، يعود الى وجود "سلة" كبيرة من الأزمات والملفات متداخلة، وفكفكة عقدها لا يمكن أن يتم بالفصل في ما بينها. الحلول مشتركة الى حد كبير، مثلما أن أطرافها متشابكون ومتداخلون يستخدمون ويستثمرون الضد وضده في وقت واحد.
"زلزال" التقرير الدولي
حصل تعديل زمني بسيط، الآن يبدو أن كل شيء تأجل بحثه وحله بشكل تفصيلي حتى مطلع الصيف المقبل. هذه الفترة الممتدة من الآن وحتى صيف 2009، ستشهد استحقاقات انتخابية بعضها مصيري وبعضها الآخر نتاج الاختيارات الانتخابية الأخرى، بشكل واضح:
* طهران، التي ستنتخب رئيساً للجمهورية، أجّلت هذا الاستحقاق حتى 12 حزيران 2009 بدلاً من أن يكون قبل نهاية السنة الشمسية في 20 آذار 2009. هذا التأجيل له تفسير واحد، إن طهران لم تعد تكتفي بمعرفة هوية الرئيس المنتخب، المطلوب معرفة نهجه وخريطته السياسية، سواء كان جون ماكين أو باراك أوباما. أربعة أشهر كافية لمعرفة الحقيقة، بعدها يمكن التجديد لأحمدي نجاد المتشدد أو اختيار مرشح معتدل يكون على قياس المرحلة.
* لبنان سيكون على موعد مع الانتخابات التشريعية التي ستكون بلا شك مصيرية، إما تبقى الأكثرية أكثرية أو تصبح المعارضة أكثرية. النتيجة تعني إما التطبيع مع دمشق على قاعدة علاقات قوية بين دولتين مستقلتين وإما الالتحاق الكامل والدخول على خط وحدة المسار والمصير. ومن الطبيعي أن أي تحوّل رئاسي في طهران نحو الاعتدال سينعكس حكماً على طبيعة التحالفات في لبنان. "حزب الله" لا بد أن يأخذ في الاعتبار موقف "الولي الفقيه" في حساباته وقراراته.
* العراق على موعد مع الانتخابات التشريعية، البعض يريدها استحقاقاً لإحداث تغيير شبه انقلابي يعيد صياغة تركيبة القوى والأحزاب، بحيث يقوم توازن جدي بين القوى لصالح القوى المعارضة لحزب "الدعوة" وللمجلس الإسلامي برئاسة آل الحكيم. أيضاً منهج وإدارة المواجهات في العراق من قبل الرئيس الأميركي الجديد لا بد أن ينعكس على الاستحقاق الانتخابي التشريعي المقبل.
* فلسطين مركز الأزمة رغم أهمية العراق يجب أن تشهد انتخابات رئاسية وربما تشريعية.
عدم حصول هذا الاستحقاق يعني ترسيخ فصل غزة عن الضفة الغربية، وهو هدف عزيز لإسرائيل. لكن أيضاً يعني أن غزة ستنزلق بسبب الحصار والاختيارات السلبية السيئة نحو مزيد من التطرف. حركة "فتح" لن ترث حركة "حماس" المرشح لوراثتها تنظيمات أكثر تطرفاً مثل "أمة الإسلام" أحد فروع "القاعدة" مباشرة أو بطريقة غير مباشرة. نتيجة الوضع هذا لا بد أن تنعكس على باقي الملفات، والنتيجة أيضاً معلقة على مواقف دمشق وطهران المعتدل أو المتشدد.
من الضروري أن تطول هذه الهدنة ليس في لبنان وحده فقط، فالهدنة مشتركة بين "الساحات" الثلاث العراق وفلسطين ولبنان. لن تسقط الهدنة أو تمدد في واحدة دون الباقين. التلازم قائم حالياً ولأمد طويل.
لا يعني ذلك مطلقاً أن لبنان واللبنانيين يمكنهم أن يناموا على حرير إطالة هذه "الهدنة الهشة" المعرضة لامتحانات محدودة بعضها قد يكون خطيراً من دون أن يؤدي ذلك الى الانزلاق نحو الانفجار. أكثر من ذلك، إن لبنان على موعد مع مواجهة حتمية في استحقاق آخر، أيضاً طبيعته ستُحدث "زلزالاً". ذلك أن التقرير حول جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، سيصدر في نهاية العام الحالي، لذا من الضروري جداً التحضير منذ الآن لخريطة طريق واضحة ودقيقة لمواجهة هذا "الزلزال" الجديد الذي لن تقل أهميته عن زلزال اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
أمام هذا كله لا يبقى أمام اللبنانيين بمختلف قواهم وأحزابهم، سوى الحوار ومزيد من الحوار المنتج، وليس لتقطيع الوقت على أساس أن الآخرين يقررون ونحن نتحمل تبعات قراراتهم. ليس صحيحاً أن للدول أقداراً لا يمكن لها الهرب منها، ما تختاره شعوبها وتعمل على تنفيذه، يضع حكماً المعادلات الأساسية من أقدارها، فهل يكون اللبنانيون على مستوى المسؤولية "فيعقلوا ثم يتوكلون"؟.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.