يتندر اللبنانيون المقيمون في فرنسا أنه حتى انتخاب نيكولا ساركوزي رئيساً للجمهورية، كانوا متفقين على نقطة واحدة رغم اختلافهم العميق في تقييمها حول طبيعة العلاقات الفرنسية ـ اللبنانية، وأن الرئيس السابق جاك شيراك ربط هذه العلاقات منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، بتطورات الوضع اللبناني وموقفه من دمشق، مما أنتج قطيعة فرنسية ـ سورية عميقة وحادة.
الآن، الوضع مختلف جداً. الخلاف عميق وجدي بين اللبنانيين حول طبيعة العلاقات الفرنسية ـ اللبنانية ـ السورية. قسم من اللبنانيين يذهب بعيداً في سلبيته فيرى أن الرئيس نيكولا ساركوزي ضحى بعلاقات فرنسا التاريخية مع لبنان لمصلحة إعادة العلاقات مع دمشق وتطبيعها. بذلك فإن باريس قايضت لبنان بالتطبيع مع دمشق. عندما تتكلم المصالح يصبح الفيصل هو الميزان وليس التاريخ. والكفة تميل لدمشق لكثرة ما بين يديها من ملفات، خصوصاً ملف المفاوضات غير المباشرة بين دمشق وإسرائيل. دمشق كما يشدد هذا القسم عرفت كيف تبيع باريس هذا الملف العزيز والثمين الى قلب ساركوزي.
أسود وأبيض لمواقف اللبنانيين
القسم الثاني وهو المتفائل رغم تشديده على واقعيته يرى أن باريس لم تقايض لبنان ولا يمكن أن تقايضه. المسألة ليست فقط لأسباب تاريخية وإنما لحسابات سياسية أكثر تعقيداً مما يعتقد البعض، منها المحافظة على خصوصية الوضع المسيحي في المشرق. أيضاً وهو مهم جداً أن الالتزام الفرنسي بلبنان وحماية سلمه الأهلي وضمان استقلاله وسيادته وحريته، "سلاح" قوي وفعال بيد باريس نستثمره فعلياً في إدارة مسار التطبيع المستمرة مع دمشق.
باريس الرسمية تدرك جدية هذا النقاش الدائر بين اللبنانيين في فرنسا من جهة وفي لبنان نفسه. لذلك تشدد على ضرورة الخروج من الحالتين في المواقف أي الأسود والأبيض، وتدعو للتعامل مع موقفها وحركتها بواقعية حقيقية مستندة الى وقائع زيارة الرئيس ساركوزي لدمشق وما جرى خلالها.
تشدد باريس على أن تعاون دمشق في الدوحة الذي أنتج اتفاق الدوحة والذي جرت ترجمته ميدانياً بانتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية ومن ثم تشكيل حكومة وفاقية يرأسها الرئيس فؤاد السنيورة الذي كان طوال عامين تقريباً محاصراً وهدفاً لكل الهجومات والتهجمات من المعارضة، وتعيين قائد جديد للجيش، وأخيراً وهو الأهم قبول دمشق بإقامة علاقات ديبلوماسية مع لبنان وهي التي لم تكن تقبل الاعتراف به كياناً مستقلاً عنها. لا بل تهمس باريس بحذر شديد للبنانيين المعترضين ألا تلاحظون كيف توقف مسار الاغتيالات في لبنان.
تنازلات محسوبة
أيضاً تختصر باريس طبيعة التطبيع مع دمشق بالتركيز على أن تعاون دمشق في الدوحة أنهى القطيعة معها، لكنه لم ينه الاعتراضات أبداً. ولذلك فإن تنازلات باريس لدمشق مرفقة بتنازلات سورية في لبنان. لا توجد "هدايا" تقدمها باريس مجاناً لدمشق. كل شيء بحساب. كل ما في الأمر أن العلاقات أصبحت مع دمشق متحركة وليست مبنية على ملف واحد. باختصار شديد، الملف اللبناني تحول من جدار يتصل مع دمشق الى معبر للتطبيع يمكن إقفاله بسرعة فتحه.
تأكيداً لطبيعة هذا التحول في العلاقات الفرنسية ـ السورية، تقول أوساط فرنسية غير رسمية عندما يعز الكلام الرسمي حتى لا يؤدي أي انزلاق الى تعريض "خريطة الطريق" التي رسمها ساركوزي للاهتزاز. إن ما يهم ساركوزي قبل أي شيء استمرار مسار المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية وعدم توقفه، لأن استمراره لا بد أن يحدث تطوراً مفيداً، الى جانب أنه يبقي الطريق مفتوحاً أمام ساركوزي للتدخل ولعب دور بناء، على أمل التوصل خلال ولايته الرئاسية الى حل يدخل عبره الى التاريخ من جهة ويؤكد على موقع لفرنسا مع الولايات المتحدة الأميركية وعبرها في صناعة التغيير في العالم الجديد المتعدد الأقطاب.
الأوساط نفسها ترى أن دمشق بحاجة حقيقية للتطبيع مع فرنسا وبناء علاقات قوية، ولذلك فإنها مضطرة لمراعاة مواقفها خصوصاً في لبنان. دمشق تريد وتعمل على عدم الانزلاق نحو الموقع الذي وصلت إليه طهران. وإذا كانت طهران تتحمل المقاطعة والعقوبات، فإن دمشق لا تتحمل ذلك، فهي لا تملك ثروة النفط والغاز التي تملكها طهران، كما أن باريس تعمل على ملفات كثيرة يمكن استخدامها بفعالية ضد دمشق إذا ما حاولت التملص أو اللعب على التفاهمات التي توصلت إليها مع الرئيس ساركوزي ومن ذلك الملف النووي وتهريب الأسلحة الى لبنان والمحكمة الدولية.
صحيح أن باريس تشدد على الطبيعة الدولية التي منحت ملف المحكمة خصوصية مستقلة. لكن أيضاً فإن باريس وغيرها من الدول الغربية باستطاعتها في أي وقت العمل على تسريع إجراءات المحاكمة، كما يمكنها إبطاؤها. كل شيء ممكن من دون المس بالأصل وهو وجود المحكمة نفسها.
سرعة الرئيس نيكولا ساركوزي في دفع مسار التطبيع مع دمشق أثار الكثير من الشكوك لدى قسم كبير من اللبنانيين وجعل من تساؤلاتهم حول مقايضة لبنان سؤالاً واقعياً وشرعياً. ما زاد من رفع درجة الشكوك أن باريس تكثر من الحديث عن سوريا العلمانية التي تحارب الأصولية وعنفها، النتيجة الطبيعية لذلك دعم دمشق وإغماض عيونها عن الكثير من الخطوات والعمليات التي تقوم بها دمشق باسم الحرب ضد الأصوليين المتطرفين. الى جانب ذلك، فإن التركيز على الملف الأمني في علاقات فرنسا مع العالم العربي يعزز السرعة في التطبيع، مما يؤدي حتماً الى إبعاد السياسيين أو الخبراء عن الملف اللبناني والسوري معاً.
برنار كوشنير وزير الخارجية الفرنسي، المعروف بخصوصية علاقته مع لبنان وصراحته، قال لمسؤول لبناني كبير، لقد جعلنا دمشق تعترف بلبنان وتتجه لإقامة علاقات ديبلوماسية معه، بعد أن ساهمت في عملية انتخاب رئيس للجمهورية الباقي عليكم. المسؤول اللبناني أجابه بكثير من الدقة السياسية، يعني أنكم تتركون الأسد والأرنب معاً وحدهما. أجاب كوشنير: الأرنب ذكي ويعرف كيف يتعامل مع الأسد. المسؤول اللبناني ختم الحديث بقوله: هذا لا يكفي!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.