خمس وثلاثون سنة من الهدوء والاستقرار بالتمام والكمال مضت على الجبهة السورية ـ الإسرائيلية في الجولان. فماذا تريد إسرائيل أكثر من هذا الالتزام السوري وتنفيذه بهذه الدقة والمصداقية حتى ولو استمر اشتعال الجبهة في الجنوب اللبناني طوال تلك السنوات على يد المقاومة الوطنية، التي قبلت تنفيذاً لقرار سياسي دفعت ثمنه غالياً، بتسليم راية المقاومة لحزب الله، الذي وفى بوعده فحرّر الجنوب ناقص مزارع شبعا؟
لا شك أنه لا يمكن لإسرائيل أن تطلب عسكرياً أكثر من ذلك، يبقى أنها الآن تطالب بالمفاوضات المباشرة مع دمشق بعد انطلاق مسار المفاوضات غير المباشرة برعاية تركية. أما بالنسبة لدمشق فإنها وكما أثبتت الأيام والأحداث، قادرة على بيع كل شيء، والعثور على "الشارين" من كل الأنواع. دمشق نجحت في الحصول على صمت العرب وأساساً السوريين، على هذا الهدوء الذي وصل إلى حد الدخول في حالة ثُبات أهل الكهف، على أساس أنه ضروري لكي يتم بناء التوازن الاستراتيجي، الذي لم يحصل، أما متى سيحصل فالعلم عند الله وحده. وهي أيضاً نجحت في فرض رعاية إجبارية على المقاومة عبر التحالف مع إيران والإمساك "بشرايين" السلاح والتسليح للمقاومة. بهذه الرعاية، التي فرضتها الجغرافية ووجودها في لبنان قدمت نفسها بأنها دولة المواجهة الأولى. بذلك جمعت بين المساكنة والمواجهة معاً وهو ما لم يستطع أي عربي تحقيق هذا الانجاز الذي جمع النقيضين معاً.
دمشق الداء والدواء
الآن ودمشق تفاوض إسرائيل برعاية تركية وتضامن وتحريض فرنسي، تؤكد على براعتها من جديد في "بيع" المتناقضات. لقد حوّلت، من جهة هذه المفاوضات غير المباشرة، إلى "درع" يحميها من الاتهامات الغربية عامة والأميركية خاصة بأنها جزء من محور الشر الذي يعمل على تعميق "المستنقع" العراقي، وخلخلة الحالة الفلسطينية لإبقاء المواجهة الإسرائيلية ـ الفلسطينية، كل ذلك بالتحالف مع الجمهورية الإسلامية في ايران. بهذه المفاوضات قدمت دمشق نفسها أيضاً كدولة تريد السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وما على الغرب وتحديداً واشنطن سوى الصعود وقيادة "قطار" المفاوضات، إذا أرادت فعلاً تحقيق السلام. وقد صدقت فرنسا ـ الساركوزية أولاّ هذا العرض، فأسرعت قافزة فوق كل الحواجز بما فيها الحاجز اللبناني، لتطبع معها بأسرع ما أملت دمشق. وسرعان ما أصبحت باريس مثالاً للأوروبيين حتى تحوّلت زيارات المبعوثين الأوروبيين إلى دمشق كما تقول واشنطن إلى "مواكب".
أكثر من ذلك، فإن واشنطن أصبحت بدورها باسم البراغماتية السياسية المعهودة عنها ترى في أي خطوة سورية "علامة مشجعة" يجب ملاقاتها في نصف الطريق، بهذا تدفع واشنطن برأيها نحو "تغيير دمشق لسلوكها". واشنطن لم تغير في وضعية العربة والحصان. منذ البداية دعت إلى "تحسين دمشق لسلوكها" ولم تطالب بإسقاط النظام. مشاركة دمشق في انتخاب الرئيس ميشال سليمان برأي الجميع دليل تبعه أكثر من واحد على "جدّية" دمشق.
ايضاً دمشق باعت لطهران، ويبدو أن ما اشترته الأخيرة يبدو مقبولاً حتى الآن، وهو أن المفاوضات مع إسرائيل غير جدية، انها مجرد عملية لتقطيع الوقت، لذلك لن ينتج عنها أي شيء. لذلك من الافضل الاكتفاء بالمتابعة والملاحقة والتدقيق من وقت لآخر وعدم الحذر والتشكيك. بهذا فإن الحلف الايراني ـ السوري ليس للمقايضة وهو غير معرض للسلخ كما تأمل واشنطن وباريس معاً. هذا الموقف الأميركي، يؤكد ان واشنطن لم تكن بعيدة عن المسار الفرنسي بالتطبيع مع دمشق، وأنها ضمناً كانت راضية عنه، على قاعدة إذا نجح فالربح مشاركة مع باريس، وإذا فشل فباريس هي التي ستدفع الثمن وحدها. إنها صفقة رابحة جداً بكل حسابات السوق والمصالح.
لبنان في "عين الحدث"
دائماً، لبنان في عين الحدث وتطوراته، دمشق التي نجحت في أخذ شهادة بحسن السلوك بدرجة عالية جداً، عندما ساهمت في إجراء انتخابات رئاسية وتشكيل الحكومة الوفاقية برئاسة الرئيس فؤاد السنيورة رغم رفضها الضمني له، تعود اليوم لتطلب أكثر بكثير، تحت بند مواجهة الإرهاب الأصولي. وإذا كانت قد نجحت في تعزيز موقعها في الملف العراقي تحت بند دعم المقاومة في زمن اختلط فيه "حابل" المقاومة بـ"نابل" الإرهاب، فإنها اليوم تقدم نفسها "ضحية" في مواجهة الإرهاب الأصولي المنتشر في شمال لبنان والزاحف إلى مواقع أخرى ربما منها البقاع الغربي، الذي كان قاعدة وممراً في زمن الوصاية لكل "المجاهدين" الراغبين في التوجه إلى العراق، وعندما سدّت الأبواب تحوّل مخيم نهر البارد مقراً لحركة "فتح الإسلام" التي أنتجت تدمير المخيم وفي الوقت نفسه القادرة على تطويقه ووأده.
اليوم تخاف دمشق وهي تعمل على تسويق هذا الخوف ببراعة شديدة من "الإرهاب الأصولي" في الشمال "الخاصرة الرخوة" لها. نار "العرقنة" لم تكسر الحدود العراقية ـ السورية، لكن كما اكتشفت دمشق حالياً فإن نار "العرقنة" الممزوجة بـ"اللبننة" من النوع الخارق ـ الحارق، ولذلك فإن سوريا بخطر والعالم في خطر أكبر، وأفضل طرق محاربته، القيام بهجوم استباقي يقضي عليه، ويحمي الغرب من "العرقنة" و"الأفغنة" معاً.
دمشق، النظام ـ العلماني يسوق بجدية كبيرة لهذا الدور الذي يعطيها حضوراً أكبر وصولاً إلى استحقاق "شرعية دولية" لمصالحها في لبنان، كما حصل عليها سابقاً من واشنطن وإسرائيل. ولو عاد الأمر لدمشق الآن قبل الغد، لكانت احتفلت بذكرى حرب تشرين وقواتها في لبنان من القرى الشمالية وصولاً إلى نهر الليطاني. لكن يبدو أن تحقيق ذلك صعب جداً، في هذه المرحلة حيث "الأوراق اختلطت بسرعة في منطقة الشرق الأوسط".
رغم هذا التحول البارز، والدعوة إلى إعادة ترتيب الأوراق بطريقة مختلفة بالتكيّف مع الواقع المستجد، كما نقل عن تيد لارسن فإنه يجب انتظار انتخاب رئيس جديد للولايات المتحدة الأميركية، ومدى جدية دمشق في مفاوضاتها مع إسرائيل، لأنه على هذين الحدثين سيتم "إعادة ترتيب الأوراق" وبالتالي تشكل جديد للمسارات وخصوصاً في لبنان.
كل ذلك يقتضي من اللبنانيين مزيداً من الحذر والكثير من الحسابات الدقيقة، فلا شيء مستحيلا في عالم يتغير بمثل هذه السرعة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.