لم يحدث أن تحدثت شخصيات وأحزاب وقوى سياسية إسرائيلية في عز أزمة سياسية، أو على مشارف المنافسة في انتخابات تشريعية حاسمة عن التفاوض والسلام وخصوصاً السلام الشامل مع العرب، كما يحدث حالياً. جرت العادة أن تتنافس كل الأطياف السياسية الإسرائيلية مزايدة البعض على البعض الآخر حول طبيعة وشكل الحروب الشامل أو الجزئية ضد هذه الدولة العربية أو تلك.
غريب هذا التحول والاغرب أنه مفاجئ حتى أيام قليلة كان الحديث والمزايدات بين السياسيين والجنرالات حول طبيعة الحرب إذا شنت على لبنان، الى درجة اعتبار كل قرية لبنانية هدفاً مفتوحاً لكل أنواع القصف كما حصل في الضاحية الجنوبية من بيروت أكثر من ذلك، العمل على تأديب الدولة اللبنانية بكاملها باعتبار انها المسؤولة مباشرة عن حزب الله.
مبادرة بيروت العربية
أكثر من ذلك وربما اعمق من هذه المفاجأة، هذا التحول في طبيعة الرؤيا والموقف من المفاوضات مع الدول العربية التي يجب التفاوض معها وهي سوريا ولبنان وفلسطين. فقد أصبحت هذه القوى الإسرائيلية ترغب في التفاوض الشامل، أي أنها تدعو الى وحدة المسارات على قاعدة مبادرة بيروت التي قدمها الملك عبدالله بن عبد العزيز والتي أصبحت تعرف بمبادرة بيروت عام 2002.
عمدت إسرائيل منذ حرب تشرين من العام 1973 الى الفصل بين المسارات وتوقيع اتفاقات سلام مع كل دولة على حدة. هذا ما فعلته مع مصر أولاً، بذلك نجحت في سلخ مصر عن قرار الحرب، فجمدت الجبهتين السورية والأردنية، ووضعت قرار التصدي في الثلاجة، ثم نجحت في عقد اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين وأخيراً اتفاق السلام مع الأردن.
شيء من التاريخ أيضاً. رفضت إسرائيل، المبادرة العربية ورأتها غير مناسبة وغير مجدية رغم انها كانت مبادرة استثنائية تفتح الأبواب على مصراعيها نحو إقامة سلام شامل. بقي هذا الرفض وتصاعد، حتى إذا اقدمت دمشق على قرع الباب عبر تركيا نحو مفاوضات غير مباشرة، سارعت تل ابيب للرد ايجابياً بسرعة كبيرة رغم معارضة الرئيس جورج بوش رعاية هذه المفاوضات وتحويلها الى مفاوضات مباشرة.
الآن، يعلن شيمون بيريز وهو رئيس إسرائيل أنه من الخطأ إجراء مفاوضات منفردة، وانه من الأفضل الذهاب الى اتفاق سلام إقليمي مع الدول العربية وجامعة الدول العربية. اما لماذا اختار بيريز هذا التوجه الشامل الذي يمكن أن يقول عنه بأنه ليس طارئاً عنده وانما هو حصيلة خبرة طويلة، فلأنه اكتشف بأنه سيكون بالإمكان الحصول على ضمانات والتوصل الى صفقة شاملة.
إذا كان شيمون بيريز، رئيساً لا يحكم رغم وزنه المعنوي في إسرائيل، فان من يمارس السلطة وله حضوره ووزنه على الخريطة السياسية بحجم ايهود باراك الشريك الاول لرئيسة الوزراء المسماة تسيفي ليفني فانه يقول: ثمة انفتاح في الواقع لاستكشاف أي مسار وحتى هذا المسار أي المفاوضات الشاملة والأهم انه قال ذلك بعد محادثاته مع ليفني بحيث أوحى أنها بشكل أو بآخر متضامنة معه. ثم أضاف باراك بوضوح شديد لقد اقترحت على ليفني ان نضع خطة سلام مع سوريا والفلسطينيين ولبنان.
ايهود باراك زعيم حزب العمل وشريك كاديما في السلطة لم يكتفِ بالتأييد وإنما كعسكري محترف تقدم كما يبدو بروايته البعيدة المدى وقام بعرضها على ليفني، المختصر المفيد فيها وضع خطة سلام شاملة مع سوريا والفلسطينيين ولبنان.
لبنان ووحدة المسارات
لبنان في قلب هذا التطور الاسرائيلي الانقلابي باراك لم يتحدث سوى عن المفاوضات وضم المسار اللبناني الى المسارين السوري والفلسطيني في مرحلة معيّنة وهو أصلاً ما تحدث عنه الرئيس بشار الأسد عندما أشار الى وحدة المسارَين السوري واللبناني عندما تصبح المفاوضات المباشرة جدية وعندها لا بد أن ينضم لبنان الى تلك المفاوضات. مسؤول اسرائيلي قد يكون باراك أو من حجمه عرض أمامه ابرام اتفاقية عدم اعتداء منفصلة مع لبنان من شأنها حل الخلافات حول ترسيم الحدود وما سيتبع ذلك من خفض ترسانة المقاومة وامتناع الطيران الاسرائيلي من التحليق في الأجواء اللبنانية.
من السهل جداً إهمال هذا التطور الإسرائيلي والتعامل معه على أساس محاولة اسرائيلية لاغراق العرب والمجتمع الدولي في نقاشات غير منتجة على صعيد السلام، في وقت تنجح فيه اسرائيل في كسب الوقت والظهور بمظهر الدولة التي تريد السلام في وسط بحر من العرب يتكلمون عن السلام وهم يريدون ازالتها من الوجود.
هذا التوجه الاسرائيلي في هذا الوقت بالذات له أسبابه العميقة من جهة، وقراءة واقعية للتحولات الاقليمية والدولية من جهة أخرى. هذه الطروحات هي ثمرة تحولات حقيقية وأمل المجتمع الاسرائيلي. القاعدة في كل المجتمعات الديمقراطية (مهما كانت الملاحظات والمواقف حقيقية وواقعية حول احادية هذه الديموقراطية في إسرائيل وعنصريتها ضد العرب)، ان الحملات الانتخابية هي افراز طبيعي لتوجهات القاعدة، من الصعب جداً أن يطرح حزب مشروعاً سياسياً معاكساً بدرجة تصل الى 180 درجة اذا كان يسعى الى الفوز بالسلطة. أي محاولة من هذا النوع تصطدم بجدار لا يمكن اختراقه، ولو عبر ثغرة صغيرة.
اسرائيل اصبحت مقتنعة الآن بعد سلسلة الحروب والمواجهات مع العرب من دول ومن حركات ومنظمات سياسية، أن خيار الحرب لم يعد هو الحل. الهدف من الحرب أي حرب أن يكون مردودها العسكري والسياسي أكبر بكثير من تكلفتها البشرية والمالية. الحروب الخاطفة كانت رمزاً للحروب الناجحة. منذ العام 1973 سقط مشروع الحرب الخاطفة. ثم أكدت ولادة الشعب الفلسطيني بعد أن أنكرت غولدا مائير وجوده، عبر المقاومة، ومن ثمّ المقاومة في لبنان على مدار ثلاثة عقود وصولاً الى مقاومة حزب الله، التي توجت كل جهاد المقاومة في تحرير الجنوب والصمود الضخم وغير المسبوق في حرب 2006، أن الحرب تزداد صعوبة وكلفتها باهظة جداً، وأن قرار انهائها لم يعد بيدها كما في السابق.
الآن، تأخذ اسرائيل بحساباتها ان انتخاب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، ليس فقط نقطة تحول عميقة على المستوى الأميركي الداخلي وانما هو مشروع لقاء بين عالم يتغيّر ورئيس قادر على ملاقاة هذا التغيير والتعامل معه. أساس هذا التغيير كما يبدو وكما قال كولن باول رئيس اركان الجيش الأميركي ووزير خارجية أميركا الاسبق، الذي لا يمكن لأحد التشكيك بقدراته الاستراتيجية، ان أوباما قادر على التحدث مع أناس لم تتحدث معهم. باختصار ان امكانية الحرب ضد ايران ستتساقط منذ اليوم الأول لانتخابه والبديل هو المفاوضات. كل الحشود العسكرية والمالية ستكون باتجاه أفغانستان، ولإيران دور في ذلك. والأميركيون ملوك البراغماتية يعرفون ان المصالح متشابكة وان لكل شي ثمنه.
أخيراً ان ترجمة الكارثة المالية التي ضربت العالم وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية وما ستنتجه من ركود اقتصادي وتضخم للبطالة وكساد اقتصادي عام وشامل في العالم، ستكون في تراجع المساعدات المالية الضخمة، ومطالبة مختلف القوى في العالم، بالتهدئة حتى يخرج العالم كله من هذه المرحلة الصعبة والدقيقة وليس الولايات المتحدة الأميركية وحدها.
لبنان معني جداً بهذا التوجه الاسرائيلي، فهل يضع لنفسه خطة وحتى خريطة طريق للتعامل معها ومع المتغيرات الدولية، حتى لا يدعى الى الانخراط في هذا المسار، في وقت ليس مستعداً فيه لمواجهة شروطه واستحقاقاته، وفي الوقت الذي يكون غير قادر على الرفض؟.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.