سيبقى الرئيس جورج بوش وحيداً وسيندم. عزلته تتزايد، ووحدته تتأكد يوماً بعد يوم. في اللحظة التي سيخرج فيها من البيت الأبيض، سيخرج من التاريخ. لن يتذكره أحد إلا كرئيس لم يجد شيئاً ليفعله سوى إضاعة الفرص. انتخب في حالة استثنائية، ودخل البيت الأبيض وخلفه جيش من الرجال والقوى الذين تجمعهم وحدة سياسية وفكرية قادرة على فرض ما لا يمكن فرضه، فعمل برأيها وقرر حرباً دولية ضدّ الإرهاب، وتغيير خرائط عديدة في العالم، خصوصاً في الشرق الأوسط. في النهاية لم ينجح في شيء. حتى في تجفيف "المستنقعات" التي أقامها أو غذاها، لم ينجح. لم يبق أمامه سوى مئة يوم تقريباً في البيت الأبيض، كل ما يمكن أن يقوم به التخفيف من حجم الخراب الذي خلفه، حتى لا يمضي خليفته مئات الأيام وهو يبحث عن الحلول.
طبعاً النظام الأميركي ليس نظام الرجل ـ الرئيس، الولايات المتحدة الأميركية دولة مؤسسات، ينتهي الرئيس وتتفكك ادارته، لكن المؤسسات تبقى وهي تقرر. من المبكر جداً الكلام عن الإدارة المقبلة، حتى ولو تم افتراض فوز باراك اوباما. لكن من الواضح ان العالم يتغير، واوباما يريد أن يكون رجل التغيير. لذلك قال كولن باول، رئيس الأركان الأميركي ووزير الخارجية الاسبق، "ان اوباما قادر على ملاقاة هذا التغيير، والعمل على دفع عملية تغيير أميركا والعالم معاً".
المرحلة الانتقالية
واضح جداً ان هذه المرحلة هي مرحلة انتقالية ليس في مسألة انتظار انتخاب الرئيس الأميركي الجديد، وإنما في كل ما يجري سواء في التعامل الدولي اليومي أو في التحضيرات القائمة حالياً للتعامل بواقعية واستعداد مع المتغيرات، خصوصاً في ظل الكارثة المالية غير المسبوقة التي ضربت العالم كله عن طريق المركز وهو الولايات المتحدة الأميركية.
حالياً، يتم العمل على رسم المسارات التي ستتقاطع في نقطة معينة وتوقيت معين مع الاستراتيجية التي ستتبعها الإدارة الأميركية المقبلة. فالأزمات عديدة، بعضها مصيري للعالم ومعه الولايات المتحدة الأميركية مثل معالجة الكارثة المالية آثاراً ونتائج، إلى جانب العمل لصياغة نظام مالي دولي جديد يأخذ بعين الاعتبار دروس ما حصل. في الوقت نفسه، فإن فشل "الحرب العالمية ضدّ الإرهاب" حتى الآن لا يقل وزناً عن نتائج الكارثة المالية، لا بل انها حالياً أصبحت جزءاً من التعامل ما بعد الكارثة، فالمال هو عصب الحرب، عدا ان الدول لم تعد مستعدة للانخراط في حروب تبدو بلا نهاية وخسائر بشرية غير محدودة.
العالم الذي اكتشف وليس واشنطن وحدها انه انزلق بسرعة وقوة نحو "المستنقع الافغاني"، إلى درجة ان الفرنسيين تذكروا ما قيل في ان "للجحيم اسماً هو قندهار"، هذا العالم يريد تجفيف هذا "المستنقع" بكل الطرق والوسائل قبل أن لا يعود ذلك ممكناً. ما يعزز هذا المسار الصعب التأكد بأن الانتصار مستحيل. العسكر هم أوّل مَن اكتشف ذلك. قائد القوات البريطانية في افغانستان قال بوضوح "ان دحر الطالبان مستحيل".
استحالة الانتصار العسكري، أسقط الحل العسكري. البديل هو الحل السياسي. الرئيس الافغاني حميد كرزاي قَبِل أولاً بمبدأ الحوار والتفاهم مع الطالبان، المملكة العربية السعودية أمسكت هذا التوجه بقوة وعملت كما اعتادت ديبلوماسيتها بصمت فجمعت ما لم يكن ممكناً أن يجمع من مسؤولين سابقين من "الطالبان" ومسؤولين من كابول على "الأرض المحايدة"، مكة المكرمة في نهاية أيلول الماضي. وهي حالياً تتابع بفعالية هذه المهمة التي يمكن أن تخرج رأس "قوس الأزمات" من هذا الموقع الدامي.
الشرط الأول والأخير كما يبدو هو انسلاخ الطالبان عن "القاعدة". هذا الانجاز إذا ما تحقق، يمكن الكلام عن خطوة كبيرة باتجاه ضرب التطرف الأصولي في قلبه وعمقه. أي نجاح يتحقق في هذا المجال، هو نجاح للعالم كله، خصوصاً للدول التي ضربها أو وصلها عنف القاعدة ومنها السعودية ومصر والجزائر وخصوصاً العراق. مجرد انسلاخ الطالبان عن "القاعدة"، فإن ذلك سيعني تشتت "القاعدة" بحثاً عن مركز جديد لادارة الحرب والتوجه. بطريقة أو أخرى فإن هذا التشتت قد يخلق بؤراً جديدة لكنها ستبقى ضعيفة مهما قيل عن لا مركزية القرار وإنما فقط التوجيه. هذا المسار الأميركي ـ الدولي، لأن الرئيس كرزاي لم يناشد للمساعدة في الحوار والحل السياسي دون أن يأخذ موافقة واشنطن أولاً.
وحدة اللبنانيين مطلوبة
باريس بدورها سارعت لاحتضان هذا المسار، فأكدت ديبلوماسيتها انها ستدعو إلى مؤتمر حول افغانستان تحضره دول الجوار وإلى جانبه السعودية بسبب دورها الاساسي، سان كلو حيث شهد في السابق لقاء القوى والأطراف اللبنانية، وأسس لما بعده في الدوحة وان مؤتمر سان كلو ـ 2 سيعقد قبل نهاية العام الجاري.
هذا النشاط المكثف للديبلوماسية المتعددة، قد لا ينتهي بالنجاح المرغوب بسرعة. عقبات كثيرة ستعترضه منها هل يوافق الطالبان على الجلوس مع كرزاي ومن ثم القبول بتبادل السلطة؟ وهل ستبقى حركة "الطالبان" موحدة؟ الن ينشق عنها متطرفون أشد تطرفاً من الملا عمر وأكثر استعداداً للانخراط المباشر بدلاً من الإيواء والمساندة لبن لادن؟ وهل ستقبل إيران الثمن الذي سيدفع لها لتحمل عودة الطالبان الى كابول؟
اسئلة كثيرة قائمة وأخرى قد تفرزها التطورات، المهم ان إعادة توجيه الحرب العالمية الثالثة ضدّ الإرهاب الى المركز في أفغانستان بعد ان شتتها جورج بوش في حربه ضد العراق، تخفف على منطقة الشرق الاوسط من ضغوط حقيقية، تحت تسميات متعددة. المهم كيفية التعامل معها.
أفغانستان بعيدة جداً جغرافياً عن لبنان. لكن كون "قوس الأزمات الإسلامي" يبدأ في أفغانستان وينتهي في لبنان، فان مثل هذا التطور يعنيه مباشرة. أي تحول على طول القوس لا بد أن تصل ارتداداته الى لبنان فكيف إذا كان الأمر يعني أفغانستان القمة الموازية له.
ما يعني لبنان أكثر، أن أي ضربة توجه الى "القاعدة" حالياً، تريحه. ليس لأن لبنان قاعدة "للقاعدة"، ولكن لأن محاولات جدية تريد إلباسه رداء يفيض عنه بكثير. الم يقل الرئيس بشار الأسد أن الإرهابيين اصبحوا يتوجهون من لبنان الى العراق عبر سوريا"، ولذلك أصبحت دمشق تعاني من إرهابهم.
هذا التوجه قد يعني أن اللبنانيين هم الذين ربوا وغزوا هذا الغول وهم لا يعلمون انه في النهاية لا بد أن يمزقهم. أخطر من ذلك ان بعض الإدارة الأميركية الحالية أصبح يصدق ذلك ويشير الى انتشار "القاعدة" في شمال لبنان.
إذا كانت واشنطن تريد التفاوض مع دمشق، فلتتفاوض معها لكن لا داعي لمقايضة لبنان بملف "الحرب ضد الإرهاب". بانتظار ان تأتي الإدارة الأميركية الجديدة التي ستقرر نهائياً ماذا تريد وكيف ستتحرك وكيف ستتفاعل مع الأطراف فإن على اللبنانيين من كل الطوائف والانتماءات السياسية توحيد جهودهم وتوجهاتهم حتى لا يصبحوا ضحية لكذبة كبيرة من هذا الحجم، قد توجد مجموعات صغيرة متحركة أو نائمة جرى تشكيلها وتشجيعها أثناء تنشيط ودفع "المجاهدين" و"الانتحاريين" الى العراق. لكن ذلك لا يعني مطلقاً أن لبنان مركز للإرهاب لا يمكن مواجهته إلا بتكليف أميركي ـ فرنسي لدمشق لمحاربته ووأده.
لبنان قادر على التعامل مع هذه التطورات ومواجهتها، شرط أن لا تتحول هذه المواجهة إلى جزء من الخلافات الدائرة. لا أحد فوق السكين، الجميع مهما كان التزامه وطموحاته تحت السكين!.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.