تبادل العلاقات الديبلوماسية بين دمشق وبيروت، سيتم خلال الأسابيع القليلة المقبلة. بورصة الأسماء المرشحة لتولي أحدهم منصب السفير تزداد غنى يومياً. كثيرون يرغبون بأن يحوزوا على لقب أول سفير لبلاده لدى الشقيق أو الشقيقة. المطلب اللبناني الملح منذ 14 آذار حتى اليوم يكاد يتحقق، دمشق لم تعد تعارض هذا الحدث الذي يضع نقطة نهاية لحقبة طويلة، لأنه استنفد أغراضه، خصوصاً على ضوء التطورات والمتغيرات الكثيرة والتي كان بعضها زلزالياً.
فتح السفارة نهاية المطالب؟
دمشق تعتقد عن حق، أن الاستمرار في تجاهل مطلب الاعتراف بلبنان دولة مستقلة لم يعد يفيدها، ولم يعد قابلاً للاستثمار بحيث تكون عائداته أكثر من كلفته. بالعكس، حالياً تمرير هذا الاعتراف يرفع من رصيدها دولياً، خصوصاً على الصعيد الفرنسي، وسحب مواقف معارضة لها متعددة الأوجه والأسباب. لهذا كله ستلعب دمشق لعبة الاعتراف حتى النهاية. كان بود دمشق تأجيل هذه العملية الى ما بعد تسلم باراك أوباما الرئاسة في 20 كانون الثاني من العام المقبل، حتى تقدمها هدية له على أن تقايضه بهدية تسمية سفير أميركي لديها. لكن يبدو أن زيارة الرئيس نيكولا ساركوزي الى بيروت في السادس من الشهر القادم، قد تدفعها وحتى تجبرها على تجيير هذه الهدية له، حتى يمكنه التحرك في بيروت أمام المسؤولين اللبنانيين بحرية تامة دون ضجيج المساءلة الاعلامية وحتى السياسية.
المشكلة ستبقى قائمة سواء أعلن التبادل الديبلوماسي قبل 6 كانون الثاني أو بعد العشرين منه. العالم كله يعرف أن دمشق تريد العودة الى قلب القرار السياسي اللبناني ويتعامل مع هذا الاحتمال الا الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي. ليس هذا الموقف نتيجة لقلة المعلومات لديه. الديبلوماسية الفرنسية نشيطة جداً وهي تعرف تفاصيل التفاصيل من اليوميات اللبنانية. موقف ساركوزي يتجاوز ذلك. مجرد أن يقرّ بهذا الهدف المعروف لدمشق، يعني أن مهمته لم تكتمل، وأن عليه بذل جهود اضافية ومكثفة ومتواصلة مع دمشق، بحيث لا يعود بإمكانه التوقف عند محطة النهاية التي قررها حالياً.
الرئيس الفرنسي يؤكد دائماً ان ما طلبه من دمشق شرطاً للانفتاح الكامل عليها تكاد تنفذه بحذافيره، فقد أنهت انزلاق لبنان نحو الهاوية بمساهمتها في انجاز اتفاق الدوحة، وانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة وفاق وطني والدخول في آلية فتح السفارة وتسمية السفير. الواقع يؤشر الى أن كل ذلك ممتاز لكنه ليس أكثر من قمة جبل الجليد الطافية على سطح الماء. بعيداً عن القول بأن تبادل الاعتراف الديبلوماسي يشرع عودة دمشق الى لبنان لأن للسفارة الحق بالتعامل الرسمي في كل المجالات والقطاعات، وليس الأمني فقط، فإن المسعى الحقيقي المرئي لدمشق هو قلب موازين القوى السياسية في لبنان، بحيث تتحول المعارضة أكثرية حاكمة تشرع بدورها عودة الريموت كونترول الى قلب القرار السياسي اللبناني. هذه العودة ممكنه جداً، لأن النظام اللبناني تداولي وصناديق الاقتراع تلزم هذا التداول.
سؤال كبير يطرحه أي لبناني سواء عن سذاجة أو معرفة. لماذا الرئيس الفرنسي ساركوزي المفترض انه لا يمكنه التغافل عن العلاقات المميزة بين بلاده ولبنان لأسباب تاريخية معروفة، يتناسى أو يتغافل عن هذا الطموح السوري الذي تعمل له دمشق ليلاً ونهاراً؟.
مشكلة ساركوزي انه يطرح اجابات معقدة لأسئلة الشرق المعقدة بدلاً من محاولة العثور على اجابات بسيطة ومبسطة تساهم في صياغة الحلول. طموح ساركوزي الكبير والذي كما يبدو له الأولوية المطلقة، كيفية حل النزاع الاسرائيلي ـ العربي، خصوصاً جناحيه السوري واللبناني وكيف يمكنه لعب دور حقيقي يدخله التاريخين، الأول عبر النزاع نفسه الذي لم ينجح أحد في حله، والثاني التاريخ الاسرائيلي نفسه، التزاماً منه بتعلقه العاطفي باسرائيل علناً.
ماذا عن طهران؟
المفاوضات غير المباشرة بين دمشق وتركيا، شكلت قوة دفع لا تقاوم أمام ساركوزي للانفتاح على الرئيس بشار الأسد، متجاوزاً كل الحساسيات والألغام والحواجز تحت بند المراهنة بكل رصيده على المستقبل. الرئيس بشار الأسد كان بحاجة ليد ساركوزي الممدودة فاندفع نحوه وقدم له كل ما طلبه لأن ما قدمه هو من الكيس اللبناني وليس من كيسه.
حالياً طموح ساركوزي الكبير دفع لبنان نحو مسار مفاوضات غير مباشرة مع اسرائيل على أن يكون هو عراب هذه المفاوضات، على أمل تحويلها الى مفاوضات مباشرة مع التقدم السوري ـ الاسرائيلي. بطريقة أو بأخرى، يبصم ساركوزي على عودة وحدة المسار والمصير اللبناني ـ السوري حتى ولو كان كل ذلك على حساب لبنان.
بالمبدأ طموح ساركوزي مشروع، بالفعل لا أمل حالياً من هذا كله، لأن حزب الله يملك عملياً حقّ الفيتو. الدخول في هذا المسار يعني انقلاب حزب الله على نفسه والمبادرة الى التخلي عن سلاح المقاومة الذي من أجل المحافظة عليه كسر خطوطاً حمراء في 7 أيار الماضي. أكثر من ذلك ان دمشق حتى ولو عادت الى قلب القرار اللبناني فإن لضغوطها على حزب الله حدوداً لا يمكنها تجاوزها، لأن ذلك يضعها مباشرة في مواجهة إيران. المعروف أيضاً ان طهران غير مرحبة وحتى غير مطمئنة لمسار التفاوض السوري ـ الاسرائيلي، وانها تركت هذا المسار سالكاً لأن دمشق ما زالت تؤكد لها ان المفاوضات تجري من أجل المفاوضات، ولا نتيجة ترجى لها ومنها. لكن من المؤكد ان الحسابات ستكون مختلفة جداً اذا ما استفاقت طهران يوماً، ووجدت ان المفاوضات نجحت وأصبحت التزامات متبادلة، وجدولاً للتنفيذ وفق روزنامة محددة.
لو كان للبنانيين من رسميين وعاديين أن يقدموا هدية ـ نصيحة للرئيس ساركوزي لكي يحقق نجاحاً يصب في النهاية في خانة فرنسا الصديقة التاريخية للبنان، فإنها ليست أكثر من مثل شعبي وبيت شعر عربي قديم للمتنبي سيد الشعر العربي.
يقول المثل الشعبي: في التأني السلامة وفي العجلة الندامة، خلاصة هذا المثَل أن ساركوزي يلعب حالياً مع الرئيس بشار الأسد الذي تعلم من والده الرئيس الراحل حافظ الأسد ان الرهان الحقيقي هو على الوقت، لأن وقت الآخرين محدود ووقته مفتوح. فلا يستعجل ساركوزي كثيرا، وليراهن على الوقت بالوقت.
أما بيت الشعر فيقول:
جوعانَ يأكل من زادي ويمسكني حتى يقال عظيم القدر محمودُ
تجربة اللبناني مع دمشق طويلة وغنية، فقد اعتادت دائماً أن تبيع وتشتري وتقايض من كيسه. حالياً تفعل ذلك براحة كاملة مع باريس.
العلاقات بين لبنان وسوريا، محكومة بالتاريخ والجغرافيا واختلال موازين القوى. فماذا عن فرنسا الدولة الكبرى التي ترأس حالياً الاتحاد الأوروبي؟ وسوريا التي تريد إكمال عودتها الى المسرح الدولي من البوابة الفرنسية؟.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.