تراجع التفاؤل الإيراني الشديد من انتخاب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة الأميركية. أدركت طهران بسرعة ان النمر الأميركي ما زالت له أنياب قوية، وأن تسلم الكلينتونيين المفاصل الأساسية في الإدارة المقبلة لن يحدث أكثر من تغيير في اللهجة والشكل، أما المضمون فما زال كما هو. بذلك فإن الفرق بين الرئيس المنتهية ولايته جورج بوش، والرئيس المنتخب أوباما حيال إيران لا يزيد عن أن بوش كان يحمل عصاً غليظة ويلوح بها دائماً في حين أن الجزرة التي يحملها بيده الأخرى يحتفظ بها خلف ظهره. أما باراك أوباما فإنه يلوح بالجزرة عالياً، في حين أن يده الأخرى تقبض بقوة على العصا الغليظة.
نجّاد ليس رجل الحوار
رغم هذه الحالة الدقيقة للعلاقة المعقدة الأميركية ـ الإيرانية، فإن طهران تتابع تحركاتها داخلياً وخارجياً، مؤكدة مرة أخرى أنها لا تنتظر انتهاء المرحلة الانتقالية لمعرفة خريطة الطريق التي ستسير وفقها، فالحرب بالوقت على الوقت لا تعني مطلقاً الانتظار بهدوء. ولم يعد يوجد شك أن تأجيل موعد الانتخابات الرئاسية في إيران حوالي ثلاثة أشهر، إنما كان لملاحقة أفعال الإدارة الأميركية الجديدة وتكوين رؤية واقعية عنها تسهل التعامل البراغماتي معها، بدلاً من البناء على الأقوال والتصريحات الكثيرة، وتعلم طهران جيداً أنه إذا اعتمد أوباما لغة الحوار معها، فإن أحمدي نجاد الرئيس الحالي لن يكون رجل الحوار، ولذلك فإن احتمال عدم التجديد له يصبح قائماً وعملياً جداً. في هذه الحالة فإن الأسماء المرشحة لخلافته وهي حالياً كثيرة ومتعددة الاتجاهات تحت الاختبار بانتظار ساعة الحسم، علماً أن مستقبل العلاقات مع واشنطن أصبح في قلب مسارات التنافس على تبني الإصلاحيين والمحافظين لهذا المرشح أو ذاك.
يبدو أن طهران أخذت رغم رفضها لها رسالة الرئيس نيكولا ساركوزي في الاعتبار حول عدم استعداده للحوار مع الرئيس أحمدي نجاد، هذه الرسالة التي كلّفته عدم اكتمال المؤتمر حول أفغانستان في باريس بواسطة العقد هي إيران، ذلك أن طهران تعرف أن ساركوزي يحاول أن يلعب مع أوباما دور طوني بلير رئيس الوزراء البريطاني السابق مع بوش، طرح هذا الطلب وكأنه عرض للحوار مع رئيس إيراني آخر.
خارجياً، فإن طهران تتبع حالياً سياسة أكثر تحركاً في المنطقة، خصوصاً في الملفين الأساسيين فلسطين ولبنان، آخذة في الاعتبار حجم التحولات الضخمة إذا ما اندفعت دمشق باتجاه الحل مع إسرائيل برعاية أميركية ـ أوبامية.
من هنا فإن طهران التي ترفض الكلام عن أي طلاق مع دمشق، فإنها كعادتها تعمل وكان كل شيء ممكن. المعروف أن طهران لا تحب المفاجآت، فصانع السجاد الإيراني يعرف دائماً أين ستكون القطبة الأساسية في السجادة وهو ما زال في بدايات القطب الأولى لأنه إن لم يفعل ذلك فإن لوحة السجادة لن تكتمل أو ستملؤها الشواذات والتشوهات مما يجعل من صناعاتها سدى.
طهران ستستمر في مساندة دمشق، لأنه لا مصلحة لها في انهيارها تحت وطأة الإغراءات أو التهديدات، الأميركية (سواء بالمحكمة الدولية أو الملف النووي). سقوط دمشق يحول طهران الى جبهة مكشوفة بلا خط دفاع أول أو أخير في المنطقة. لكن كل شيء بحسابه.
لم يعد توجد ضمانات مطمئنة يمكن الاعتماد عليها خصوصاً وأن الإدارة الأميركية الجديدة قادرة على مواجهة الحرب بالوقت بالسلاح نفسه مع ارتفاع ملحوظ في حجم الضغوط، إذ لديها أربع سنوات كاملة.
التحرك الإيراني باتجاه القوى السياسية
أمام هذا الواقع، فإن طهران تعمل حالياً وخصوصاً في لبنان على التحرك باتجاه كل القوى السياسية في لبنان، دون أن يشكل ذلك أي إحراج لـحزب الله الابن الشرعي والوحيد للثورة الإسلامية في إيران.
طهران في مرحلة الاستكشاف مع القوى اللبناينة التي لم تدخل في عداء مكشوف معها، أو تلك التي لم تأخذ مواقف قاطعة منها، وهذا الاستكشاف لا يطال القوى السياسية والحزبية فقط وإنما أيضاً يطال شرائح من المثقفين، على أمل خلق نوع من التفهم إذا لم يكن بالإمكان الوصول الى نوع من التفاهم.
أساس هذه التحركات، التأكيد على تفهم طهران لمخاوف اللبنانيين من عودة دمشق الى قلب صناعة القرار اللبناني حتى ولو لم تعد عسكرياً الى شوارع بيروت. أكثر من ذلك فإن طهران وجهت رسائل عديدة مباشرة أو غير مباشرة، بأنها تفضل التعامل مع لبنان واللبنانيين مباشرة بدلاً من المرور الى لبنان عبر دمشق. لذلك كله فإن طهران تحاول رؤية واضحة لمسألتين:
الأولى: التقديرات الموضوعية للنتائج المحتملة للانتخابات التشريعية المقبلة وانعكاس تلك النتائج على تشكيل الحكومة وما إذا كان من مصلحة حزب الله الفوز بالأغلبية المطلقة، مما سيضعه فوراً بين شقي الضغوط السورية والموقف الإيراني.
الثانية: مستقبل المحكمة الدولية وانعكاس نتائج الانتخابات التشريعية على إجراءات المحكمة وموقع لبنان منها.
في هذا الوقت، لم تعد تخفي طهران بأن الوضع قد تغير داخل حزب الله، فهي أصبحت أقوى فيه، من الحضور السوري رغم أن ذلك لم يكن يتطلب أكثر من قرار، لأن تشكل الحزب كان دائماً يسمح لها بذلك. ويبدو هنا أن اغتيال عماد مغنية الذي كانت تعتمد عليه كثيراً في إمساك مفاصل الحركة داخله الى جانب السيد حسن نصرالله، هو الذي دفعها في هذه المرحلة الانتقالية والحساسة الى بلورة هذا التوجه. وما هذا كله إلا نوعاً من الحركة التحصينية في مواجهة المستقبل الغامض مع احتمالات المفاوضات والمقايضات.
الثوابت الإيرانية تجاه لبنان وفلسطين واضحة، وهي تقوم على عدم التخلي عن حزب الله ولا عن إبقاء فلسطين في واجهة اهتماماتها لأنها القضية التي تجعل من خطابها السياسي حاضراً ميدانياً. أما الباقي فإنه تدخل في خانة المتغيرات والتكتيكات والتحالفات، وهذه كلها قابلة لتدوير الزوايا في حالة حوار منتج يتناول تثبيت دورها الاقليمي ودخولها النادي النووي.
عدم حصول الطلاق بين طهران ودمشق، لا يعني أن العلاقات التاريخية ما زالت قائمة على الثقة الكاملة. مجرد وقوع الشك بين الزوجين مهما كانت طبيعة عقد الزواج بينهما، تعني تسلل مفاعيله الى عمق العلاقات اليومية، حيث يصبح كل شيء مفتوحاً أمام اختبارات دائمة.
الكرة الآن في ملعب دمشق، ولذلك فإن طهران وإن كانت لا تسألها علانية عن كل خطوة تقوم بها، لكن من الواضح أنه كلما اقتربت نهاية المرحلة الانتقالية، ازداد الحذر وكثرت الحسابات.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.