لن أخفي ولن أكتم فرحتي وحتى سعادتي، وأنا أرى العلم السوري بألوانه العربية التاريخية الخارجة من قلب هذه الأرض المعطاء، ونجمتاه رمزاً للوحدة مع مصر، وهو يرفرف عالياً على مبنى السفارة السورية في شارع المقدسي. أخذت عهداً على نفسي، أنني وأنا قادم إلى شارع الحمرا، أن أمرّ من تحت هذا العلم، سواء كان ذلك صباحاً أو مساء لأحيّيه، وأحيّي فيه كل مشاعر الوحدة العربية الطاغية، التي وإن ابتعدت كثيراً فإنّها تبقى دفينة في أعمق الأعماق، بانتظار أن تتحوّل الأحوال، ولا يعود يخاف العربي من أخيه العربي.
المقدسي: مربّع أمني جديد
تحوّل عظيم لا يمكن إنكاره ولا تجاهله. المرور أمام العلم السوري قبل سنوات لم يكن يوحي بهذا الشعور، مرارة التجربة هي التي جعلت من هذا الحدث حلواً ومصدراً للفرح. قبل سنوات كان العلم السوري مزروعاً في كل شوارع بيروت، تحديداً في شارع المقدسي، حيث على بُعد مئات الأمتار من مقر السفارة اليوم، كان يوجد مقر المخابرات الذي كان مَنْ يدخله خرج فاقداً كرامته، سواء لأن جامع وصايا النظام لم يكنّ يرحم كلاماً أو تصرّفاً بناء على إخبارية من واشٍ. أو لأنّ الداخل كان له مطلباً أو خدمة لدى الدولة أو الآخرين، فكان يأخذ ما يطلبه بعد أن يدفع من كرامته ووطنيّته ما طلب منه.
الآن كل مَنْ يسير في شارع المقدسي، رغم أنّه تحوّل منذ أشهر إلى مربّع أمني جديد جرى التخطيط له بعناية، لن يعيش أي خوف من حاجز زرع العلم السوري على جنبه بدلاً من أن يرفرف عالياً كما يجب، من إهانة لأنّه لم يسارع إلى الردّ بسرعة على طلب الهواوي، أو لألف سبب وسبب عاشها مئات الألوف من اللبنانيين على جميع الحواجز من الليطاني إلى العاصي.
أخيراً، اعترفت دمشق رسمياً بلبنان. حتى الأمس كان مجرّد كيان مركّب ومعلّق إلى حين عودته أو عودة أجزاء منه إلى الشقيقة الكبرى. الآن العلاقات أصبحت رسمية، ولم يبق سوى انتظار سعادة السفير إلى المقرّ الجديد، بعد تسميته رسمياً. بهذا اصبحت العلاقات شرعيّة مئة بالمئة. السؤال الذي يجتاح اللبنانيين: هل كان يجب انتظار كل هذه القطيعة للدخول في مسار الشرعية؟ حتى هذا التحوّل ما زال يقلق اللبنانيين. ماذا يعني شرعنة العلاقات؟ هل ترجمتها ستكون شرعنة التدخّل في الكبيرة والصغيرة؟
لدمشق حضورها أحزاباً وقوى ورجال. هذا من حقها الأخوي، ولن يدخل أحد في نقاش حول هذا الوجود. السؤال، كيف ستعمل وتتحرك، وتحرك كل هذه القوّة في أروقة السياسة الداخلية اللبنانية؟. لا يكفي مطلقاً أنّ دمشق بكل وجودها العسكري والأمني الطاغي قبل سنوات لن تصادر حرّيات لبنانيين أحياناً إلى الأبد، كما لا يكفي مطلقاً أنها لن تدوس كرامات رجال من جميع الأجيال والمهن إلى جانب سياسيين وحزبيين لأنها قويّة ومقتدرة. الأهم من كل ذلك أن لا تتحوّل هذه الشرعية إلى سلاح لإعادة صياغة السلطة في لبنان.
الكرة الآن في ملعب دمشق. إذا أرادت إصلاح ما أفسدته طوال ثلاثة عقود لاكتساب القلوب، أي قلوب اللبنانيين قبل ربح بعض المواقع وبعض الرجال ـ اللارجال فإنها بلا شك قادرة على ذلك وأن تحقق نجاحاً عظيماً. أما إذا اعتبرت انّ لها حقوقاً يجب أن تقتطعها أو تقتلعها دون الالتفات إلى آثار ذلك فإنها أيضاً قادرة، لكن لن يكون لها موقعاً لا في عقول ولا قلوب ولا وجدان اللبنانيين، الأسوأ أن المطالبة بالحدّ من وجودها وحضورها سيكون مطلباً لبنانياً جديداً مهما بلغت كلفته.
وحدة المسار والمصير
أمر آخر، كانت دمشق قادرة على فعل ما فعلته وما مارسته وسط صمت الضعفاء من جهة أو لأنّ كلمتي الاستقلال والسيادة لم تدخلا القاموس اليومي للكثير من اللبنانيين. منذ 14 شباط 2005، تحوّلت الأمور وتغيّرت ما عدا الصغار الصغار، أصبح الاستقلال يعني الكثير لأكثرية اللبنانيين سواء كانوا من 14 آذار أو 8 آذار. الدليل أنّ أكثر حلفاء دمشق تصلباً يرون ان بيروت بلا وصاية سورية مباشرة تشكّل مكسباً لن يتنازلوا عنه. فارق كبير بين أن يضطر أي حليف مهما كان حجمه أن يمرّ صباحاً ومساء إلى شارع المقدسي أيام الوصاية أو الرملة البيضاء، لطلب إذن بالكلام أو بالحركة، وأن يتصرّف حالياً بقرار منه ولو أن الأمر يتطلب أحياناً تحت سقف التحالف وقواعده سؤال دمشق عن رأيها.
الفرق كبير أيضاً، بين زمن وحدة المسار والمصير، وحالياً. كانت هذه الوحدة تعني الاندماج بموقف دمشق إلى درجة الذوبان. دمشق تفاوض، أو تمانع، ولبنان يبصم بالعشرة موافقاً. أكثر من ذلك كان على لبنان متابعة المقاومة وتصعيدها، حتى ولو أُحرِقَت أرضه وهُجِّر شعبه، في حين أنّ الجولان دخل منذ الاحتلال في العام 1967 الكهف ونام وما زال.
حالياً دمشق تفاوض مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل منذ نحو العام، وهي تقدّم العروض المغرية حتى ينضم الراعي الأميركي، لتتحوّل إلى مفاوضات مباشرة، ولبنان لم ينضم إلى هذه المفاوضات ولا إلى الفصل القادم منها، لأنّ لبنان ليس لديه ما يفاوض عليه إلا في اطار سلام شامل وعادل. لو لم تخرج القوّات السورية من لبنان، ولو لم يسقط نظام الوصاية، هل كان يتجاسر لبنان دولة وأحزاباً ومقاومة أن يرفضوا طلب دمشق بالجاهزية للانضمام إلى المفاوضات التي لن يكون لبنان خلالها سوى ورقة إضافية في رصيد دمشق يقوّي حضورها ومطالبها التي لبنان جزءاً أساسياً منها؟
مَنْ يشكك بكل هذا، فليراجع طلب الإدارة الأميركية الحالية من إسرائيل، الذي من الواضح انه يشكّل أمانة على الإدارة المقبلة أخذه بعين الاعتبار وهو عدم بيع لبنان للسوريين، ذلك أنّه من المحظور التضحية بلبنان في مقابل السلام مع السوريين. هل يوجد أبلغ من هذا التحذير القوي وغير المسبوق لإسرائيل، لولا انّ الإدارة الأميركية تعرف جيداً حيثيّات المفاوضات غير المباشرة ومن ثم الاتفاق السوري ـ الإسرائيلي الذي يتضمن مقايضة لبنان وتوكيل دمشق به، لأنها باعت إسرائيل والآخرين خصوصاً باريس، بأنها الوحيدة القادرة على السيطرة على حزب الله والمقاومة وضبطهما؟
اللبنانيون يعرفون جيّداً الجغرافيا وقواعدها. لسوريا حقوقاً ولكن أيضاً عليها واجبات. حقوقها أن لا يشكّل لبنان خاصرتها الضعيفة وأن لا تكون هذه الخاصرة ممرّاً أو مقرّاً ضدّ أمنها. وواجبات دمشق أن تحافظ على أمن واستقرار لبنان إن لم يكن كواجب الشقيق نحو شقيقه، فعلى الأقل لأن أمن لبنان من أمن سوريا و العكس صحيح.
قائمة الحقوق والواجبات بين لبنان وسوريا طويلة جداً. مرارة تجربة العقود الماضية حوّلت الشعب الواحد في دولتين إلى شعبين في دولة واحدة. الأمر الآن أن تكون السفارة بداية ملحّة ومطلوبة لإعادة صيغة الشعب الواحد في دولتين شرط أن تحترم كل واحدة سيادة واستقلال الأخرى.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.