غموض الأهداف الإسرائيلية من حرب الرصاص المسكوب ضد غزة وحركة حماس، يعزز غموض الموقف والاحتمالات والنتائج. تسيبي ليفني وزيرة الخارجية أكدت في اليوم الثاني للحرب أن الهدف هو: تغيير الوضع في غزة وإنهاء سيطرة حماس على القطاع، في باريس قبل الهجوم البري رأت ليفني، أن الهدف هو إضعاف حماس. ترجمة هذا الإضعاف كما نطق الناطق العسكري الإسرائيلي: توفير مناخ أمني في الجنوب وتقليص عدد الصواريخ المنطلقة من غزة.
ربما الهدف من هذا الغموض وضع سقف للمحاسبة في نهاية الحرب. مهما كانت نتيجتها، يستطيع ايهود باراك وتسيبي ليفني وحتى ايهود أولمرت القول: لقد قلنا هذا ولم نأخذ بذاك. لقد تعلم أولمرت وزملاؤه درساً قاسياً من لجنة فينوغراد، تلك الدروس القاسية لحرب تموز 2006 ضد لبنان وحزب الله، تم استيعابها ويتم حالياً رسم المسارات إسرائيلياً على ضوئها.
سياسة القضم والهضم
لا يمكن لإسرائيل وهي تعرف ذلك جيداً اقتلاع حماس من غزة. يمكنها إلحاق ضربات قاسية جداً لكن يمكن تعويضها على المدى المنظور. مشكلة إسرائيل أنها كلما وجهت ضربات أقسى جاء الرد عاجلاً، في تضخم مخزون الحقد والقهر ورفعه لمستوى انتاج عنف أشد. إلغاء حماس إذا كان ذلك ممكناً يفتح الساحة على مصراعيها لحركة الجهاد الأكثر التصاقاً بطهران وبقراراتها. على الأقل حماس جزء من حركة الاخوان المسلمين التي لها حساباتها وأهدافها الخاصة، مهما تفاعلت وتآلفت مع الحركة الإيرانية.
ربما يتمنى الإسرائيليون الذين يتحركون بين ضفتي اليمين المتطرف واليمين الأكثر تطرفاً الوصول الى استيلاد حركة أكثر تطرفاً من حماس والجهاد لتبرير مواقفهم بعدم وجود محاور فلسطيني للتفاهم والتحاور معه، ليشرّعوا بذلك استمرار تطرفهم ورفضهم لغير وقائع الأمر الواقع المنتج استمرار سيطرتهم على الأرض.
الجيش الإسرائيلي يعتمد حالياً سياسة القضم والهضم في غزة. قد يحقق الكثير من ذلك، لكن حتى ولو رغب في اقتحام مدينة غزة، التي كما يبدو يعمل على محاصرتها ووضعها بين كفّي كماشة، على أن ينجز البحر رسم دائرة نارية حولها، فإنه لن يحقق انتصاراً يجرّ فيه حماس الى التسليم بالمطالب الإسرائيلية بدون مقابل. حماس ليس لديها ما تخسره أكثر من مئات الشهداء. حتى الآن لم تخسر سوى العشرات من المقاتلين. الباقي من المدنيين خصوصاً الأطفال والنساء. هذا جزء من ضريبة الدم. الغزاويون ليس لديهم خياراً آخر سوى الصمود والعض على جراحهم ووأد مآسيهم ولو الى حين. أمام الدم تخسر الحسابات والمحاسبة.
أيضاً ماذا تستفيد إسرائيل من توجيه مزيد من الضربات الى النظام العربي الضعيف أصلاً، أكثر من إحراج جبهة المعتدلين في وجه محور تقوده دمشق عربياً وإيران إقليمياً، خصوصاً وأن كل العملية بما فيها الأثمان المدفوعة مسبقاً ولاحقاً هي من كيس الشعب الفلسطيني بشراً وحجراً.
لقد أخذت إسرائيل في البداية شرعية دولية للحرب ضدّ حماس وغزة. ونجحت في تدعيم هذه الشرعية بحملة إعلامية إلى الخارج بأنها الضحيّة القائمة لـحماس وإيران، وأنّ العرب المعتدلين هم الضحية المقبلة. لكن هذه الشرعية بدأت تتخلخل. كل يوم حرب برية تدق مسماراً في نعش هذه الشرعية. حالياً بدأت أصوات إسرائيلية تخرج مطالبة بعدم تكرار إطالة أيام الحرب حتى لا يُفرض عليها توقيت نهايتها، في مواجهة هذا القلق الإسرائيلي الذي بدأ يتشكل بدأت الأوساط الإسرائيلية الحاكمة تعزف معزوفة جديدة تقوم على وجوب الخروج بقرار دولي جديد مشابه للقرار 1701 ومناسب لخصوصية وضع غزة.
1701 على قياس فلسطين
حتى لو حصل وأصدر مجلس الأمن قراراً موازياً للقرار 1701 وعلى القياس الفلسطيني، فإنّ ذلك لن يحل شيئاً. القضية الفلسطينية مختلفة جداً عن النزاع اللبناني ـ الإسرائيلي، شعب غزة مثله مثل باقي الفلسطينيين خصوصاً في الضفة الغربية يريد الاعتراف بحقه في إقامة دولة مستقلة كاملة السيادة وقادرة على العيش، وليس تحرير مزارع شبعا فقط. لذلك كله فإن المواجهة ستستمر حتى إنجاز هذا الحق، إن لم يكن اليوم فبعد ألف عام.
الخطر الذي يتشكل الآن وهو يتصاعد بقوة وعلناً، أن شرائح إسرائيلية مهمة وكثيرة بدأت تأخذ بحل التهجير والفصل. ما أعلنته ليفني عن ترحيل عرب 48، لم يكن كما يبدو مجرد شعار انتخابي لكسب أصوات اليمين المتطرّف. عندما يكتب يني موريس الأستاذ والمؤرخ الإسرائيلي: ان الفلسطينيين في الضفة والقطاع زائد عرب 48 سيزدادون عدداً على الإسرائيليين خلال عشر سنوات، وأنّ عرب إسرائيل سيزيدون وحدهم عدداً عام 2050 عن الإسرائيليين، فإنّ معنى ذلك توجه نحو الاقتلاع والتهجير. ربما هذا المشروع صعب جداً لأنه برأي الكثيرين سيغطي على صور الهولوكوست. الزمن مختلف جداً عن عام 1948. كانت الهولوكست طازجة ومحزنة ومربكة للجميع، ولم يكن أحد مهتماً بالعرب خصوصاً في ظل الاسطورة بمنح أرض بلا شعب إلى شعب بلا أرض.
أيضاً محاولة إسرائيل اليوم أو بعد خمسين عاماً رمي كرة النار الغزاوية إلى أحضان مصر، وحتى إلصاق الضفة الغربية بالأردن ليستا مقبولتين. فلا مصر تقبل بمثل ذلك ولا الأردن إن لم يكن لأسباب تتعلق بالأمن القومي لكل واحدة منهما على انفراد، فلأن ذلك يعني المشاركة في ذبح القضية الفلسطينية، وهو أمر مرفوض رسمياً، كائناً مَنْ كان الرئيس أو الملك، وشعبياً سواء اليوم أو بعد ألف عام. أمام هذه الاستحالة فإنّ على إسرائيل متابعة تحمّل مسؤولياتها.
تستطيع إسرائيل أن تصرخ لعقود طويلة أن إيران هي المسؤولة عما يجري حالياً من تصعيد للمواجهة ولتضخيم قوة حماس وحضورها. لكن ذلك لا يغيّر أمر أن القضية الفلسطينية قامت وتبلورت بالقوة المسلحة عندما كانت إيران حليفة لإسرائيل، وهي ستبقى قائمة سواء بقي النظام الحالي في طهران أم تغير، الحل السياسي العادل والمشرف وحده هو الحل.
التفاهم السوري ـ الإسرائيلي، كان ينتظر كلمة كما كشف رئيس الوزراء التركي اردوغان. الحرب ضد غزة وغدر إسرائيل بتركيا ومحاولة إظهارها وكأنها كانت تعلم بالغزو الإسرائيلي هو الذي أنتج القرار التركي الدخول بقوة على مسار رفض الهجوم الإسرائيلي وكل نتائجه والتحرك بسرعة وحزم.
إحراج إسرائيل للرئيس نيكولا ساركوزي زعيم صديق إسرائيل الذي ساهم خلال ولايته الأوروبية في تحسين مكانة إسرائيل في الاتحاد الأوروبي، دفع الرئيس الفرنسي حالياً لزيارة المنطقة لطلب حل ينهي هذه الحرب. ساركوزي ليس لديه هدايا ليقدمها لأحد في دمشق وتل أبيب. رغم ذلك هل تعمد إسرائيل إلى مساعدته في صياغة حل ولو موقت يساعد الجميع حتى تسلم باراك أوباما الرئاسة ومعرفة حقيقة موقفه، خصوصاً وأنّ أيام العلاقات المتميزة مع إسرائيل أوشكت على نهايتها، وأن على إدارة أوباما كما يرى البعض في واشنطن أن تكون أكثر قسوة من سابقاتها.
الحرب ضد غزة، ليست محصورة بحركة حماس ومستقبلها فقط. إسرائيل تحاول من خلال هذه الحرب الاستطلاع المستقبلي عبر الجحيم. لذلك يجب التنبه بشدة لكل خطوة ولكل قرار وحتى لكل كلمة، فالعنف الوحشي هذه المرة أبعد بكثير من تحقيق انتصار محدود.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.