لم يُسقِط الفيتو الأميركي القرار رقم 1860، لأنّ واشنطن لم تستخدمه استثنائياً. إسرائيل وحماس أسقطتاه بقرار منفرد، لأنّ لا مصلحة لهما بتنفيذه. أهداف هذه الحرب لم تتحقق للطرفين. التمديد أصبح إذن ضرورة تكتيكية. من سخرية الأقدار، أن تمديد آلام الغزاويين وعذاباتهم واستمرار نزيفهم حتى الموت يصبح وسيلة لتحقيق أهداف متضاربة لكنها متقاطعة للفريقين المتحاربين.
الكلفة الغالية للنصر والهزيمة
إسرائيل لم تحقّق حتى الآن شيئاً من هذه الحرب. كلما طالت المواجهات ولم يقع الحسم، كلما خسرت إسرائيل. خلال أربعة عشر يوماً وجدت إسرائيل نفسها أمام تغيير مهم للمسار الديبلوماسي الدولي. لأوّل مرّة يصدر قرار دولي لا يرضيها، وتمتنع واشنطن عن استخدام حقها بالفيتو. كل يوم جديد من الحرب تخرج منه صور الرعب للأطفال والنساء المذبوحين أو الناحبين، تخسر فيه أمام محكمة الرأي العام الدولي. ليس قليلاً ما قاله الكاردينال روناتو مارتيني رئيس مجلس العدالة والسلام. كلمة معتقل تدور كل الأدبيّات الإسرائيلية منذ معسكرات الاعتقال النازية، وتكسر احتكارها للهلوكوست.
الأهم من كل ذلك انّ الإسرائيليين بدأوا يدركون أنهم عالقون أمام مأزق مصيري. هآرتس كتبت في السادس من هذا الشهر عن قيود هذا المأزق: إذا انسحبنا من غزة في الوقت الحالي ستظهر إسرائيل وكأنها هربت بعد أوّل مواجهة حقيقية مع حماس. إذا احتلت إسرائيل غزة بكاملها فقد يكلفها ذلك ثمناً اقتصادياً ـ سياسياً باهظاً من دون أن تضمن تحقيق أي إنجاز سياسي في المستقبل.
مشكلة إضافية لإسرائيل تزيد من مأزقها. هذه الحرب بدأت على وقع مؤشّرات الربح والخسارة في الانتخابات التشريعية في العاشر من شباط. وقف إطلاق النار فوراً دون ضمان أسرائيل وقف عمليات تسريب السلاح لـحماس، يعني تكرار نتائج حرب تموز 2006. وقف إطلاق نار ثابت وارتفاع درجة تسليح حزب الله بحيث أصبحت الحرب معه يُحسَب لها ألف حساب. السؤال الكبير الذي يواجه إسرائيل كلها: ماذا بعد وقف إطلاق النار؟ الإجابة على هذا السؤال تعني مباشرة طبيعة وحيثية مستقبل أحزاب سياسية كبرى في إسرائيل.
حماس ليس لديها ما تخسره. بالعكس كلما غرق السيف في الدم فإن نصرها يتأسّس وينمو صمودها العسكري وسط خسائر بالمدنيين قاسية جداً هو الأهم. طبيعة جغرافية غزة تفرض الالتحام بين المدنيين والمقاتلين. مهما تفادت إسرائيل المسؤولية عن الضحايا المدنيين فإنها لن تنجح في تبرئة نفسها. حماس تريد من هذه الحرب انتزاع الاعتراف بها ممثلة وحيدة للمقاومة. فتح بالنسبة لها ووقائع الحرب تؤكد ذلك انتهت كمقاومة مهما كانت مشاركة مقاتليها في غزة حقيقية. حماس تختصر هذه المقاومة شعبياً وإعلامياً. حتى حركة الجهاد الحليفة الأولى والأساسية لها بقيت بعيداً عن الواجهة. بهذا تمركز حماس أحاديّتها. أيضاً وهو مهم جداً وبدون الدخول بأولويّة الأهمية، فإنّ حماس تريد الاعتراف الدولي بها. هذا الاعتراف يُسقِط بضربة واحدة مقاطعتها ويؤكد شرعيّتها. التعليل الأبرز في بيان رفض حماس لتنفيذ القرار 1860 أنّها لم تُستَشَرْ حول نصّه مع أنّ الوفد العربي هو الذي فاوض وأقرّه وما ذلك إلا لأنّه يجب التعامل مع الذي على الأرض. وحماس هي الآن على الأرض. عندما تحصل حماس على هذا الاعتراف تكون قد شرّعت وجودها وتمثيلها على طريق الانتخابات الرئاسية المقبلة، التي برأي حماس، انّ انتصارها سيقلب الرأي العام في الضفة الغربية. بذلك تمسك حماس بالسلطة في الضفة والقطاع.
تحوّل الرأي العام الدولي
العرب أيضاً مأزومون ومحشورون في الزاوية. حصلوا على وقف إطلاق النار بعد جهد جهيد من العمل والتهديدات، ولم توافق حماس على القرار. حماس تريد ذلك خصوصاً أنها تدرك جيداً انه كلما سالت دماء الفلسطينيين في غزة، كلما اضطروا أكثر فأكثر إلى التشدّد والوقوف معها. ما يزيد من عمق هذا التحوّل، أنّ المخاوف العربية أصبحت جدّية أكثر فأكثر بما يتعلق بالتهجير والتوطين، وجدّية إسرائيل بالعمل لتنفيذ هذا الهدف. لو كانت هذه الحرب الإسرائيلية ضدّ المدنيين قبل عشر سنوات فقط لكانت قوافل الهاربين والمشرّدين والمهجّرين من الفلسطينيين قد كسرت كل الحدود. اليوم الفلسطيني وإلى حد ما العربي أصبحت أرجله مزروعة أكثر في الأرض. لم يعد الموت يخيفهم، توطن مقولة صناعة الحياة من الموت غيّرت طبيعة الصراع مع الآلة الحربية الإسرائيلية وأهدافها.
أخيراً وهو مهم جداً، أوروبا بدأت تصرخ من وجعها. في عزّ الأزمة الاقتصادية والمالية تجد نفسها أمام استحقاق مقبل وهو إعادة بناء البنى التحتية للسلطة الفلسطينية (بصرف النظر مَنْ سيمثّلها). تعبت أوروبا من هذه المهمة المكلفة مالياً في وقت دورها السياسي بالحل ليس أكثر من لعب دور الشاهد الزور.
تبقى الولايات المتحدة الأميركية، وهي بيت القصيد في كل ما يجري. إسرائيل اختارت أفضل توقيت للحرب. العالم مشغول بعطلة نهاية رأس السنة. والولايات المتحدة الأميركية تمرّ في مرحلة انتقالية. كانت إسرائيل تأمل إنهاء الحرب في أيام. الآن لم يبق سوى أقل من أسبوع لتسلم باراك اوباما السلطة.
قبل أن يتسلم اوباما الرئاسة ويدخل البيت الأبيض اضطر أمام هول صور الضحايا المدنيين أن يتكلم. صحيفة هآرتس رأت ان اوباما رفع قبل دخوله البيت الأبيض بطاقة صفراء في وجه إسرائيل، ما يعني توجيه إنذار أوّلي.
الأصعب بالنسبة لإسرائيل التي تمتعت بالتضامن الأميركي الكامل إلى درجة التمازج في المواقف في عهد جورج بوش ستجد نفسها بعد البطاقة الصفراء لاوباما كما ترى هآرتس 7/1/2009 ان إسرائيل ستواجه في عهد اوباما:
صعوبة في إغلاق معابر غزة أو فرض الحصار عليها كلما أرادت.
انّ العمليات العسكرية الهوجاء لن تحظى بتفهّم اوباما.
الأقسى بالنسبة لإسرائيل انه مهما بدا دنيس روس مقرّباً منها وقريباً من مواقفها، فإنّه يبقى من دعاة الحوار الفوري مع إيران. والآن بعد أن تولى المسؤولية في الإدارة الأميركية في موقع أرفع مما كان متوقعاً له، فإنّ ذلك لا بد أن يفرض معادلات جديدة لا يمكن لإسرائيل رفضها لأنها من القضايا الاستراتيجية التي تمسّ الأمن القومي الأميركي.
كل رسائل النار التي تبادلتها الأطراف المتصارعة في المنطقة من جهة والقوى العظمى والكبرى في العالم، قد وصلت بقوّة، خصوصاً ما يُكتب حالياً بدماء شعب غزة. المرحلة الانتقالية أضحت أيامها معدودة. قد يكون من الطبيعي ـ رغم غرابة ذلك ـ أن تستمر حرب الرصاص المنهمر أياماً طويلة ودامية، لكن من المؤكد أنّ العالم كله لا يمكنه تحمّل صراع إلى الأبد خصوصاً أنه كل يوم جديد يُولد معه عنف أسود أقسى، وانّ هذا العنف لم يعد محصوراً ولا يمكن حصر مفاعيله داخل منطقة الشرق الأوسط، العالم تحوّل إلى مساحة مفتوحة أمام أعاصيره.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.