باريس الرسمية مقتنعة جدياً، ان اسرائيل لن توقف عملياتها العسكرية في حرب الرصاص المنهمر قبل تحقيق كامل أهدافها العسكرية والسياسية.
حتى لو أبدت باريس تحفظها على طبيعة العمليات الحربية التي أنزلت خسائر فادحة بالفلسطينيين المدنيين فإن ذلك لا يقلل من اتفاقها مع اسرائيل على الهدف الأساسي من الحرب وهو ضرب حماس نهائياً، تحت شعار وقف حرب صواريخ القسام ضد جنوب اسرائيل.
لا جدوى من كل الاعتراضات على مفاعيل الآلة العسكرية الاسرائيلية في غزة. حتى نجاح الطبيبين النروجيين في نقل مشاهداتهما من داخل غزة، وكشفهما لاستعمال الاسرائيليين قنابل جديدة من نوعها تستخدم لأول مرة وهي تؤدي الى قطع جسم الانسان الى نصفين اذا كان قريباً والى قطع رجليه اذا كان على بعد متوسط، الى جانب استخدام القنابل الفوسفورية المحرمة دولياً، لم يغيّر شيئاً في المواقف الرسمية المعلنة وغير المعلنة.
نحو تغيير في الرأي العام
المتغير الوحيد هو في التحول الحاصل ببطء وباستمرارية لدى الرأي العام، تظاهرات العطلة جمعت نحو مئة ألف في باريس وربعهم في خمسين مدينة فرنسية أخرى احتجاجاً ضد الحرب وتجرؤ المجلة الساخرة سان ابدو خليفة شارل ابدو على نشر كاريكاتور على كامل غلافها يمثل علم اسرائيل الذي تتوسطه نجمة داوود المشكّلة من عظام الانسان. وهو ما اعتبر احتجاجاً نادر القسوة خصوصاً وأن امكانية اتهام المجلة بمعاداة السامية وارد جداً.
كيف تعلل باريس موقفها الذي تبقى ترجمته مهما بدا الأمر في سقوط مزيد من الضحايا المدنيين في غزة؟.
أصلاً باريس لم تكن ترغب في تمرير القرار 1860. وموقف الوفد العربي الموحد أجبرها على ذلك. باريس مصرّة على وضع آليات تنفيذ القرار قبل أي شيء، لأن القرار نفسه غير منتج. الآليات هي في:
*وقف حماس قصف اسرائيل بالصواريخ وأخذ ضمانات مباشرة وكاملة بعدم خرق هذا الخطر.
*ضبط الحدود في منطقة رفح أي شريط فيلادلفيا، حيث تقوم مئات الأنفاق.
استكمالاً لهذين الشرطين فإن باريس ترغب ومعها أوروبا ارسالَ مراقبين دوليين الى غزة لمراقة ميدانية لتنفيذ هذه الآلية علماً ان باريس ومعها الأوروبيون يرون أنه لا حاجة لإصدار قرار دولي حول ذلك. فالقرار موجود، ما يلزمه توسيع صلاحية المراقبين بحيث يصبحون فاعلين على الأرض. باختصار شديد فإن باريس التي تتكلم بلغة واحدة مع واشنطن تريد القرار 1860 قراراً متكاملاً، بحيث لا يتحول الى قرار 1701 فلسطيني. التجربة علّمت الجميع ان لا أحد في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية يريد اعادة تسليح حماس أقوى مما كانت كما حصل في لبنان مع حزب الله.
ماذا بعد الحرب؟
بعيد عن المواقف المعلنة بشكل أو بآخر، فإن المواقف الفرنسية الأخرى والتي عمليا هي الأهم فإن الرغبة تامة:
*إنهاء سلطة حماس في غزة، وإعادة السلطة أو تسليمها الى السلطة الوطنية الفلسطينية أي الرئيس محمود عباس وسلام فياض. باختصار توجيه ضربة سياسية حاسمة لها بعد كسر آلتها العسكرية.
* ان استحالة التوصل الى حل سياسي للنزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي في المدى المنظور، يجب أن يجري العمل على حل اقتصادي أو بالأحرى إنجاز سلام اقتصادي. ترجمة هذا الحل منح غزة مساعدات اقتصادية (طبعاً بعد إبعاد حماس عن السلطة) تنموية مما يساهم في الاستقرار السياسي والنفسي للفلسطينيين، خصوصاً وان التجربة في الضفة الغربية بدأت تثمر حيث انخفضت البطالة الى أقل من 20 في المئة في حين أنها تتجاوز الضعف في غزة قبل الحرب، وبدأت تقوم مشاريع استثمارية تنموية منتجة.
ويبدو جلياً ان التطابق بين الرئيس نيكولا ساركوزي مع صديقه بنيامين نتنياهو كامل حول هذا الحل الاقتصادي.
ايضاً ولحسابات فرنسية ـ أوروبية الى جانب رؤية مضمون الحل في غزة فإن باريس لا ترغب في دور تركي مباشر في الأزمة الحالية في غزة. وذلك، لأن تركيا تعترف بحركة حماس وتتحاور معها وهذا لا يتوافق مع السياسة المنفذة وهي عزل حماس ورفضها والموافقة حالياً على توجيه ضربة قاسية تلغيها أو تدجنها لتقبل بالتوقف عن قصف صواريخها الذي يعني سحب سلاح المقاومة منها.
*ان أي دور لتركيا في النزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي يعزز موقعها الشرق أوسطي أساساً مما يسمح لها بتعزيز موقعها في مواجهة الرافضين لضمها الى الاتحاد الأوروبي وفي مقدمهم باريس ـ الساركوزية.
تعترف باريس جيداً ان مصر لا توافق على ارسال مراقبين دوليين أوروبيين ومسلمين الى الحدود المشتركة المصرية ـ الفلسطينية وخصوصاً من الجانب المصري لأن ذلك يمس السيادة المصرية، الى جانب ان ذلك قد يؤسس الى تغيير في مضمون اتفاقية السلام المصرية ـ الاسرائيلية ولذلك فإن نشاطاً ديبلوماسياً فرنسياً جار للعثور على صيغة ترضي مصر. ربما من أجل صياغة الحل لهذه المشكلة وغيرها يكثف ساركوزي اتصالاته بزعامات الدول الاسلامية.
القلق الكبير الذي يخيم على باريس ناتج عن اطالة حرب الرصاص المنهمر. كل يوم اضافي من الحرب ومشاهده الدموية خصوصاً صور الأطفال والنساء الضحايا، يثير مزيداً من المشاعر الغاضبة في أوساط الجاليتين العربية والاسلامية. ترجمة هذه المشاعر في بعض الحوادث المتفرقة ضد اليهود الفرنسيين ومنها تهديد الحفل السنوي المزمع القيام به دعماً لحرس الحدود الاسرائيلي بعواقب وخيمة اذا أقيم هذا العام، لذلك جمعت وزيرة الداخلية الفرنسية ممثلين عن الجاليتين الاسلامية واليهودية في مقر الوزارة ودعتهم للعمل من أجل عدم نقل التوترات الحاصلة في غزة الى داخل فرنسا.
على نتائج هذه الحرب الدموية، تقوم حسابات كثيرة يمكن اختصارها. كيف ستكون طبيعة خريطة القوى العربية والفلسطينية والاقليمية، خصوصاً في لبنان غداة انتهاء هذه الحرب؟.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.