الأوساط الفرنسية المعارضة والمتحفظة عن الحرب الإسرائيلية ضد غزة، رسمية كانت أو شعبية ترى أن إسرائيل حضرت بعناية شديدة كل خطوة وكل قرار لهذه الحرب طوال الأشهر الستة الماضية. وقد درست هذه الحرب على ضوء الدروس المستفادة من حرب تموز 2006 ضد لبنان. وتضيف تلك الأوساط أن الكلام الإسرائيلي عن صواريخ حماس والآثار النفسية التي تحدثها لدى السكان المدنيين في جنوب إسرائيل ليس أكثر من تغطية إعلامية ناجحة، لأن الإسرائيليين قتلوا في الفترة الواقعة بين شباط 2008 ونهاية كانون الأول من العام نفسه 125 فلسطينياً بالضربات الجوية.
استكمالاً لكل ذلك، فإن هذه الأوساط كثفت من تمرير معلوماتها عبر صحيفة لوكانار انشانيه فأكدت أن القيادة العسكرية الإسرائيلية ومعها جهاز الشاباك أقاموا مدينة وأحياء غزاوية في صحراء النقب لتدريب القوات الإسرائيلية على عمليات اقتحامها منزلاً منزلاً وغرفة، كما جرى بناء غرفة عمليات عسكرية كاملة في مدينة عسقلان بالقرب من الجبهة، حتى لا تدار الحرب من بعيد وعبر شاشات الحواسيب. الأخطر من كل ذلك، أن التقارير العسكرية الرسمية تؤكد أن الطيران الإسرائيلي دفع 88 طائرة من نوع F15 وF16 في الضربة الأولى التي استهدفت مئة هدف في 220 ثانية. أما الهدف الأساسي من كل هذا العنف للضربة الأولى فهو زرع الخوف لدى الفلسطينيين لفترة طويلة بحيث يترددون طويلاً قبل الدخول في مواجهة جديدة، الى جانب خلق حالة شعبية ضاغطة على حماس لايقاف الحرب بأسرع ما يمكن.
الضربة الجوية لزرع الرعب
أيضاً، إن التنافس الانتخابي بين الترويكا المؤلفة من ايهود باراك وتسيبي ليفني وبنيامين نتنياهو لا يفسر كثيراً هذا التصميم على شن الحرب. في الواقع، إن رفض الرئيس الأميركي جورج بوش طلب ايهود أولمرت رئيس الوزراء بشن غارات جوية ضد إيران، عجل في التحضيرات ضد حماس. فالإسرائيليون لا يثقون بالرئيس المنتخب باراك أوباما كما يثقون بالرئيس بوش، وإذا كان الأخير قد رفض هذه الضربة الجوية فماذا عن الرئيس المنتخب المصر على فتح الحوار مع إيران. ولذلك جرى التخطيط للحرب لوضع أوباما وإدارته أمام الأمر الواقع. المشكلة أن كل يوم تطول فيه الحرب الآن بحيث تدخل الحرب مع أوباما الى البيت الأبيض فإن ذلك لم يعد كثيراً في صالح إسرائيل، لأن الضغوط ستتكثف عليها وليس على الآخرين.
تتابع أوساط فرنسية مطلعة وأخرى عربية مقيمة في باريس، المفاجأة الكبرى بالنسبة لإسرائيل هي فشلهم في تحقيق هدفهم الإول وهو إخافة الفلسطينيين الى درجة تحولهم الى مطرقة شعبية ضاغطة على حماس للقبول بأي حل يعرض عليهم.
بالعكس الغزاويون يتعايشون مع هذا العنف العسكري غير المسبوق الذي أوقع الف ضحية وخمسة آلاف جريح وسط ظروف معيشية أكثر من صعبة وخطرة. وإنه رغم منع الصحافة الإسرائيلية والدولية من دخول غزة فإن صوراً ومعلومات بدأت تتسرب عن المعاناة الرهيبة للجرحى وللعائلات، مما أخذ يترك جروحاً عميقة لدى الرأي العام الدولي لا يمكن للآلة الإعلامية الإسرائيلية التغطية عليها.
وترى أوساط عربية وإسلامية مطلعة في باريس مع بعض التفهم لأوساط فرنسية لهذه المواقف أن إسرائيل ترغب برؤية الفلسطينيين وهم يحتشدون على الحدود مع مصر طلباً للجوء، بحيث تتكرر تجربة 1948 بشكل أو بآخر. لكن العكس هو الذي حصل فالفلسطينيون لم يتركوا غزة وحتى أنهم لم يحتشدوا على الحدود. ولذلك فإن إسرائيل خسرت جزءاً أساسياً من هذه الحرب وهي لن تستطيع أن تعوضه، فقد انتهى زمن 1948 و1967، لقد بدأ عصر 1992 ـ 2006. أقصى ما تستطيعه إسرائيل التقوقع في الداخل.
هل يعني كل ذلك أن حماس حققت الانتصار، وأنها ستندفع غداً للحديث عن نصر إلهي جديد تستثمره في الداخل ضد السلطة في الضفة الغربية، يساعدها في ذلك أن الضحية الأولى لهذه الحرب هي السلطة وعلى رأسها محمود عباس ـ أبو مازن ـ وفتح التي ظهرت وكأنها خرجت من المقاومة تاركة لحماس احتكار هذه المهمة؟
مصر وإيران خط التماس
من الصعب جداً وحتى من المبكر جداً محاولة الإجابة على كل هذه الأسئلة المشروعة. ما يؤشر الى ذلك أن الجغرافيا لها أيضاً قواعدها وشروطها. وجود مصر الجغرافي والسياسي الملتحم مع غزة، وتحولها جزءاً من الأمن القومي والوطني لمصر يزيد من تعقيد الإجابات. خصوصاً وأن حلقة أساسية تربط غزة بمصر، وهي الشراكة القائمة بين حركة حماس وحركة الاخوان المسلمين وسط مرحلة أقل ما يقال فيها إنها انتقالية.
الى جانب ذلك فإن وجود إيران على خط تماس سياسي مع حماس والحرب فيها يرفع كثيراً من درجة التشابك والاشتباك، هذا الى جانب دمشق ودورها الدائم في عملية المقايضة والدخول التركي بقوة على مسار الحرب والسلام في هذه القضية.
باريس المتضايقة من ردة الفعل السورية على مطالبها، خصوصاً عندما زار الرئيس نيكولا ساركوزي دمشق والتقى نظيره الرئيس بشار الأسد، للعمل على وقف إطلاق النار في غزة، وذلك بممارسة الضغوط على حماس للتوقف عن إطلاق الصواريخ، ومن ثم في إرسال كلود غيان الى دمشق في 9-1-2009 للتأكيد على هذا الطلب قررت أخيراً التوجه الى النبع الى إيران. فقد اتصل برنار كوشنير وزير الخارجية بنظيره الإيراني منوشهر متكي لتستخدم نفوذها لدى حماس لوقف إطلاق الصواريخ على المدن الإسرائيلية.
الجواب الإيراني لم يعرف، لكن من المؤكد أن الطلب الفرنسي لطهران بالمساعدة في غزة قد سجل في رصيدها الذي تعمل على تضخيمه قبل أي مفاوضات مقبلة مع واشنطن ـ أوباما، ما شجع باريس أيضاً على طلبها من طهران، ما لاحظته من الحذر الإيراني الشديد في التعامل مع الحرب ضد حماس كما تشدد. ولا شك أن رفض المرشد آية الله علي خامنئي للمتطوعين أو الجهاديين بالتوجه الى غزة، أكد هذا الحذر فالطلب وإن كان رمزياً ورفض رمزياً فإن رسالته قد وصلت الى العنوان المطلوب.
عشرون يوماً مضت على الحرب ضد غزة بين الفيل والذبابة (مع حفظ التشبيه) الفيل يحطم كل ما حوله وأمامه. والذبابة تتابع دورانها في اذنه لتزيد من نوبة جنونه، ويضج العالم منه في حين تخرج الذبابة حية وإن متعبة.
بعد كل هذه الجولة من الحرب مطلوب أن تقتنع إسرائيل بأن الحل لا يمكن أن يكون عسكرياً، وأن تقتنع حماس بأنها لا تستطيع إلغاء أحد، وأن تستعد للمرحلة المقبلة التي ستجري بين مختلف القوى على طاولة المفاوضات.
أيضاً وهو الأهم، أن يستمر تحييد لبنان عن تجربة الحرب الحالية، لأن إقحامه فيها لن يساعد حماس ولا الغزاويين ولن يرفع من رصيد أحد هذه المرة مهما بلغت به البراعة في المقايضة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.