تستطيع كلاً من إسرائيل وحماس على السواء، أن تصرخا عالياً بانتصار كل واحدة منهما على الأخرى، بعد الحرب ضد غزة. لكن تبقى الوقائع والنتائج أقوى وأكثر حضوراً من كل ضجيج الصراخ. وكل ما جرى ويجري يؤكد ـ كما جاء في هذه الزاوية منذ اليوم الأول للحرب ـ أن إسرائيل لن تنتصر وحماس لن تنهزم.
من الصعب جداً مناقشة الإسرائيليين وخصوصاً الترويكا القائمة من ايهود أولمرت وايهود باراك وتسيبي ليفني، حول حقيقة انتصارهم. فالثلاثة بحاجة لهذا الإعلان، الأول لكي يمحي بهذا الانتصار هزيمته الكبيرة في حرب تموز 2006 ضد لبنان، والآخران لكي يحافظا على صعود مؤشريهما شعبياً وترجمته مزيداً من المقاعد في الانتخابات التشريعية، تمهيداً لإبعاد خصمهما المشترك بنيامين نتنياهو.
كذلك فإن جعل حماس انتصارها انتصاراً إلهياً، يلغي النقاش والمناقشة. الغزاويون يعرفون جيداً أن هذا الانتصار إذا كان يعني الصمود أمام آلة الحرب الإسرائيلية فإنه حصراً هو انتصارهم لأنهم هم الذين صمدوا رغم نهر الدماء والدموع الذي تدفق غزيراً منهم. وبتواضع شديد فإن صمود أهالي غزة يفوق كل أنواع الصمود التي عرفتها الشعوب العربية. حتى صمود الجنوبيين في لبنان يبقى بعيداً عنه، فالجنوبيون كان لديهم عمق جغرافي لجأوا إليه، وهذا العمق كان بشكل أو بآخر محيداً وآمناً.
أما في غزة فالأمر مختلف، فالأرض محدودة ومكشوفة، والغزاويون لم يجدوا سوى منازلهم وأغلبها من التنك والحجارة المرصوصة، ليلجأوا اليها، فتحولت كما ظهر بعد توقف إطلاق النار الى قبور للأطفال والنساء.
14 في المئة من غزة تهدم
هذه هي التكلفة المباشرة لشعب غزة البطل بلا مغالاة ولا تضخيم. وهي تكلفة عالية جداً لا يعادلها بدون مبالغة أيضاً سوى تكلفة أهل ستالينغراد في الحرب العالمية الثانية. واستناداً الى التقارير الخارجة من ركام غزة التي تغيرت خريطة مدنها وأحياؤها بفعل الإجرام الإسرائيلي براً وجواً وبحراً، فإن 14 في المئة منها قد تهدم، أربعة آلاف مبنى و48 مبنى حكومي و30 مخفر ومركز للشرطة والأمن و23 جامعاً و18 مدرسة قد دمّرت نهائياً عدا الأضرار المختلفة. ولهذا فإن تكلفة رفع الركام وحدها تزيد على نصف مليار دولار فكيف بتكلفة إعادة البناء، والأصعب حجم معاناة السكان في البقاء مشتتين موزعين هنا وهناك لأكثر من عامين حتى تتم إعادة الإعمار، هذا من دون الإشارة الى الدمار الذي لحق بالبنى التحتية وخصوصاً الطرقات التي تعمدت الجرافات الإسرائيلية حفرها واقتلاعها بأعماق مختلفة.
بدورها فإن إسرائيل وبعيداً عن المزايدات الانتخابية وشبه الإجماع الشعبي على الحرب، والدعم الغربي لها، فإنها ستبقى قابعة وسط طريق مسدود. الحل العسكري لا يحل مشاكلها، والحل السياسي الذي يقوم على قيام دولة فلسطينية قابلة للعيش يتطلب شجاعة سياسية ضخمة لا يبدو أن أحداً من القيادة الإسرائيلية قادر على دفعه، رغم أن باراك قال يوماً لو ولدت فلسطينياً لاخترت أن أكون إرهابياً. كل هذا في وقت يبدو فيه التاريخ قد وضع مسار هذا الحل على السكة الدولية، إذ لا يمكن حتى لأعتى أصدقاء إسرائيل حالياً أي الرئيس نيكولا ساركوزي إلا المناداة عالياً بهذا الحل الذي يضمن أيضاً الأمن لإسرائيل.
بعيداً عن الطموحات الشخصية للرئيس الفرنسي في دخول التاريخ عبر المشاركة بصياغة حل سياسي للنزاع العربي ـ الإسرائيلي وخصوصاً الفلسطيني ـ الإسرائيلي منه، فإن حرب الرصاص المسكوب التي أكدت أن استمرار الحل العسكري مستحيل، أكدت مرة أخرى أن عمل اليوم لم يعد قابلاً للتأجيل ولو الى الغد فكيف لسنوات أخرى.
أمام دخول باراك أوباما اليوم البيت الأبيض، ليصبح بذلك الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة الأميركية، وتحوله الى نوع من الأسطورة التي يتداخل فيها الواقع مع الأماني والطموحات، وخصوصاً المثاليات فإن باريس تحديداً ومعها أوروبا، عملت من خلال استعجالها لعقد قمة شرم الشيخ، لملاقاة أوباما أمام باب البيت الأبيض، حتى لا يدخل مسار الشرق الأوسط والعمل على حل نزاعاته وحده. لأوباما شركاء، أهمهم بالأكلاف أوروبا.
الديبلوماسية الأوروبية، تتحرك حالياً بمبادرة من باريس وكأنها ما زالت ترأس هذا الاتحاد، رغم أن التشيك هم الذين يرأسونها. ويبدو واضحاً أن هذه الديبلوماسية قد لمست مباشرة على الأرض، الى أي حد النظام العربي مأزوم ويقف على حافة الانهيار فالانفجار. النتيجة الوحيدة لحصول ذلك، الانقلاب على هذا النظام لمصلحة الراديكاليين وخصوصاً الإسلاميين منهم، وهذا ما لا مصلحة لأحد في الغرب بحصوله. لذلك جرت قمة شرم الشيخ لدعم بقاء الرئيس حسني مبارك ومصر في واجهة العمل العربي، خصوصاً وأن العلاقة بين مصر وغزة عضوية بعيداً عن الجانب السياسي الاستراتيجي لمصر في القضية.
مراقبة بحرية دولية
الهدف المباشر الآن لأوروبا، تحقيق الهدف الإسرائيلي المباشر والذي ترى فيه حاجة ضرورية لايقاف عجلة الحرب، إقفال كل ممرات العبور لإعادة تسليح حركة حماس في غزة عبر إقفال ممر فيلادلفيا وأنفاقه، وهو النتيجة المباشرة للحرب، وضبط البحر بواسطة قوات اليونيفيل العاملة في عرض البحر المتوسط اللبناني مستفيدة من خبرة هذه القوات طوال العامين الماضيين. مع أن هذا يتطلب موافقة من الأمم المتحدة لأن هذه القوات تعمل بفعل القرار 1701 إلا إذا تم تجاوز كل ذلك، في وقت يطالب فيه الاتحاد الأوروبي وغيره الرئيس الأميركي بتنشيط دور الأمم المتحدة بدلاً من إهمالها، كما حصل في عهد الرئيس جورج بوش.
الخطوة الفرنسية ـ الأوروبية الثانية العمل من أجل عقد مؤتمر دولي جديد للبحث في سلام شامل. في هذا المؤتمر تكون باريس أولاً والاتحاد الأوروبي ثانياً قد ضمنا مقعداً مهماً على طاولة الحل متى قرر الرئيس أوباما الانطلاق في هذا المسار أو ما يشابهه ومن أجل إقناع الرئيس الأميركي الجديد، بصلاحية وأهمية الدور الفرنسي ـ الأوروبي. فإن التوجه الجديد من قبل أوروبا نحو فرض عقوبات إضافية على إيران، إنما هو لتمهيد الطريق أمام محدلته في مواجهة طهران متى قرر التحاور معها. بهذا فإن الأوروبيين يستعملون العصا ضد إيران، في حين أن أوباما وهو في بداية عهده يمد يده بـالجزرة مما يسهل مهمته مع الإيرانيين.
الاندفاع الواضح من أوروبا للعب دور أساسي في صياغة حل موقت من أجل وقف الحرب في غزة وعدم تجددها أولاً، ومن ثم عقد مؤتمر دولي، يحتاج الى مواقف أطراف أساسية وفاعلة:
حركة حماس، عليها الإجابة مباشرة وبوضوح وشفافية ماذا تريد بعد هذا الانتصار الإلهي ـ إذا افترضنا انه انتصار إلهي __ أي هل تريد السلطة، وماذا ستفعل مع حركة فتح التي مهما قيل عن نخرها بالفساد والمحسوبية والتبلد فإنها ما زالت رقماً موجوداً لا يمكن العمل بمعزل عنه. أيضاً هل الاعتراف الدولي بوجودها كطرف فلسطيني له حضوره ومسؤولياته وحقوقه يكفي، أم أنها ما زالت تريد الاستمرار في متابعة دورها ضمن نظام اقليمي لا يمكنه أن يقدم لها حتى في عز الحرب أكثر من الخطابات التي تدعوها الى الصمود مهما بلغت معاناة أهل غزة؟. مشكلة حماس أنه لم يعد أمامها الكثير من الوقت لتلعب في ملعبه، فساعة القرار دقت.
إن القرار الأول والأخير يبقى في واشنطن، وبذلك فإن كل الجهود الأوروبية ستبقى جهوداً تنتظر الترجمة الميدانية.
إن النظام العربي المخلخل أمام ساعة الاختيار ليجيب فعلاً وبسرعة عن كل الأسئلة المطروحة عليه، خصوصاً في ظل مأساة شعب غزة واستمرار بقاء لبنان معلقاً على مدى رغبة دمشق في ضمان سلامته عبر تحسين سلوكها نحوه ومعه المطلوب عربياً ودولياً.
هذا على المدى القصير أما على المدى المتوسط، فإن هذا النظام العربي مطالب بالعمل على إعادة تجديد نفسه بنفسه حتى لا يصبح في قلب الإعصار، فتدخل قوى دولية وخصوصاً اقليمية منها إيران وتركيا على طبخة بدرجة أو أخرى تشكيل هذا النظام، عندما لن يعود نظاماً عربياً.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.