يستطيع أي مسؤول إيراني، وليس رئيس الجمهورية المتطرّف أحمدي نجاد، أن يقول بصوت عالٍ: إنّ إيران اليوم أقوى ممّا كانت قبل الثورة، أي قبل ثلاثة عقود. لا المقاطعة الغربية ولا الحصار الأميركي خاصة، ولا الحرب العشرية مع العراق، وغيرها أضعفتها. بالعكس بعض هذه التطوّرات والمواقف، قوَّتها ودفعت بها إلى المقدّمة على مساحة رقعة الشرق الأوسط الكبير.
المقارنة، ليست عسكرية. عناصر القوّة ومفاعيلها لدى الدول مزيج من العسكر والسياسة والقدرة على التعامل مع المتغيّرات والثوابت بفعالية ونجاح. الخبراء العسكريون يمكنهم حسم مسألة تغيّر موازين القوى العسكرية. إيران الشاهنشاهية كانت تمتلك خامس أقوى جيوش العالم. جاءت الثورة ففككت هذا الجيش وأعادت صياغته وتركيبه بصيغة مختلفة جداً. جرى المزج فيها بين الإبقاء على الجيش الكلاسيكي القديم مع تسلح جديد، والجيش العقائدي المتمثل بالحرس الثوري وميليشيا الباسيدج. مهما يكن حكم الخبراء، المقارنة تتجاوز هذه الحسابات العسكرية البحتة لتطال طبيعة ونفوذ إيران بين الماضي القريب والحاضر.
في كل عرس لإيران قرص
إيران اليوم حاضرة، مهما كان الموقف من هذا الحضور، على مساحة الشرق الأوسط الكبير وعلى طول قوس الأزمات الإسلامي، الذي يبدأ من افغانستان المشتعلة، حتى الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفياتي سابقاً، مروراً بطبيعة الحال بالعراق وضفاف حوض البحر الأبيض المتوسط التي تضم أعقد الأزمات وأكثرها اشتعالاً أي الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. باختصار يمكن القول انّ لإيران حالياً في كل عرس لها قرص كما يقول المثل الشعبي.
هذا الحضور ما كان ليكون قوياً ومؤثّراً لولا براعة الحائك الإيراني وضعف الفريق العربي، وحراجة موقف الآخرين وخصوصاً الأميركي منه. الإيرانيون لعبوا ببراعة وبنفس طويل وصبر يتعب منه الصبر، على تكوين هذا الوضع، دون الأخذ بأي اعتبار للمشاعر السياسية والإنسانية. الحائك الإيراني لا يهمّه سوى أن يضع الخيط المناسب باللون المطلوب في المكان المحدّد له، الباقي مجرّد جهد اعتاد بذله وتوظيفه لحياكة السجادة المرسومة ولتحصيل دخل إضافي له ولعائلته.
الآن، هذه القوّة الإيرانية، أمام امتحان كبير. فقد دقّت ساعة الخيارات الصعبة. هامش المناورة يضيق يوماً بعد يوم. طوال السنوات الثلاث الأخيرة، ناورت طهران للتخلص من الوقوع في بيت العنكبوت البوشي وقد نجحت. الآن أمامها بيت عنكبوت اوبامي من النوع الآخر. في الأوّل كان عليها تلافي خيار الحرب الذي كانت إسرائيل تطبّل له يومياً وترفده بكل أنواع التحريض تحت شعار تلافي وقوع هولوكوست آخر. علماً انّ مجرد التذكير بذلك، يعني رش مزيد من الملح على جرح تاريخي يعانيه الغرب كله، حيث ردّة الفعل الطبيعية التأكيد على الحيلولة دون وقوع مثل هذه الكارثة الإنسانية.
بيت العنكبوت الاوبامي، يبدأ من نقطة انطلاق واضحة هي نعم للحوار أولاً، كل ما يجري منذ 20 كانون الثاني ولأشهر طويلة قادمة سيدور تحت سقف هذا الاختيار. التفاوض كان وما زال حتى الآن يجري بالنار ويدور حول المواقع. هذا المسار مستمر، لكن بطريقة أوضح. أصلاً طهران أجّلت الانتخابات الرئاسية نحو ثلاثة أشهر، حتى تتأكد من حقيقة المسار الاوبامي في التعامل معها. الاسم ليس الأساس، الأهم النهج نفسه.
في طهران حالياً، تيّاران. الأوّل يقول انّ انتخاب باراك اوباما رئيساً أنتج تغييراً في الشكل، وليس في المضمون. واشنطن تريد إسقاط النظام بأي طريقة ووسيلة، ونقطة على السطر. لذلك المواجهة مستمرة مع اختلاف في طبيعة ونوعية الأسلحة. الخيار هو استمرارية النظام كما هو، أي العمل على التجديد لنجاد لولاية ثانية. أكثر من ذلك فإنّ هذا التيّار وهو واقعياً أقلّية، يرى انّ المواجهة مفتوحة على طول قوس الأزمات، والعمل على تكسير البيض الأميركي على صخور الأزمات. بهذا يمكن فرض خيارات طهران على واشنطن وأولها التسليم بالدور الاقليمي الايراني كما يراه المتشدّدون.
الخطوط الحمر
التيار الآخر وهو واسع شعبياً وبين القوى الحزبية بمروحتها الواسعة من إصلاحيين ومحافظين واقعيين يرون انّ الكرة الآن في الملعب الإيراني وعليهم أن يردّوا بسرعة على اللاعب الأميركي بمرونة ولكن مع المحافظة على صلابة في الموقف، فالتفاوض يكون دوماً من موقع قوي وعارف بما يريده وما يريده الخصم. لكل طرف خط أحمر أمام التنازل. الشرط ألا يكون هذا الخط متحرّكاً بحيث كلما تراجع المفاوض الأميركي تقدّم المفاوض الإيراني بمطلب جديد، والعكس صحيح.
الملف النووي الإيراني، ملف قومي يلتفّ حوله جميع الإيرانيين. هذا الأمر اصبح معروفاً لدى واشنطن. ليس الملف كما أصبحت قناعة الأكثرية الأميركية ملفاً يعني الملالي أي رجال الدين وحدهم. لذلك التراجع عنه مستحيل بالنسبة للإيرانيين. لكن وكما يرى العديد من الخبراء، فإنّ الإيرانيين لا يريدون صناعة سلاح نووي. ما يريدونه امتلاكهم للمعرفة النووية وصناعاتها، وهذا أصبح متوافراً حالياً. الإيرانيون يعرفون جيداً ان موسكو التي ساعدتهم وتساعدهم لا تريد مطلقاً إيران نووية أي مالكة للسلاح النووي وفي الوقت نفسه لا تريد خسارة تحالفها معها. لذلك كله سقف التفاوض انخفض دون إعلان. المهم كيف ستتعامل الإدارة الاوبامية معها. أمّا مسألة الاعتراف الأميركي بأنّها قوّة اقليمية كبرى، فإنّ ذلك سيخضع لشروط التعامل والتعاون. واشنطن الاوبامية مثلها مثل كل الإدارات منذ الرئيس جيمي كارتر تريد استرجاع طهران سواء حليفة أو تحت مظلتها. هنا حرب المواقع الحقيقية.
هذا التيّار يشدّد بأنه يجب تغيير ورق اللعب الداخلي. أحمدي نجاد استنفد دوره. القادر على تغيير موازين القوى، المرشد آية الله علي خامنئي. المشكلة ماذا لو لم يقرّر الانحياز إلى الأكثرية الشعبية والحزبية، باعتبار أنه قادر على تحقيق حلم له وهو انتهاء الامبراطورية الأميركية في عهده كما عاش الإمام الخميني نهاية الاتحاد السوفياتي؟.
الجواب عن ذلك يكون بالتهديد بمواجهة مباشرة مع المرشد عبر تشكيل جبهة واسعة خلف مرشح إصلاحي معروف مثل الرئيس السابق محمد خاتمي. السؤال هل يجد محمد خاتمي لديه الشجاعة والصلابة اللتين افتقدهما خلال ولايتيه الرئاسيتين، وخصوصاً أنّ مستقبل الجمهورية كله في الميزان وليس مصالحها هنا أو هناك.
مستقبل العلاقات الأميركية ـ الإيرانية يعني الجميع خصوصاً في منطقتنا وأساساً بالنسبة للبنان واللبنانيين. أرجحيّة تيّار الاعتدال والحوار في إيران يخفّف من حجم الضغوط والقلق على لبنان واللبنانيين. استمرار أحمدي نجاد في مواقفه الرافضة على أساس ان الانتصارات الالهية تتكاثر يوماً بعد يوم، ولذلك يجب متابعة المواجهة حتى لحظة الانتصار الكبير، تعني تعريض لبنان من ضمن مواقع أخرى لمزيد من الامتحانات الصعبة.
ما جرى ويجري في العراق من تثبيت وتطوير للنظام، بموافقة ومتابعة إيرانية يبشّر ببعض الخير. اليد الإيرانية الواحدة لا تصفق، يجب أيضاً معرفة حقيقة ما تريده اليد الأميركية. في جميع الحالات الأشهر الأربعة المقبلة، مليئة بالتطوّرات وربما بالمواجهات. الحذر خصوصاً من اللاعبين الصغار مثل اللبنانيين يجب أن يكون قوياً جداً، لأنّ الصراع بين الفيلة على مساحة مليئة بالألغام خطر جداً.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.