واشنطن الأوبامية تتحفز لمد يدها لطهران، حتى تكتمل شروط القاعدة الملزمة لرقصة الفالس المثيرة. هذه الرقصة لا تكون إلا بشراكة مدروسة وتفهم وتجاوب سريع ومتناغم من الشريكين، مع الموسيقى وفي كل خطوة لهذا الطرف أو ذاك. أي خطوة ناقصة تدفع نحو تعثر أحد الراقصين، فتفسد الرقصة كلها.
تردّد واشنطن واضح حتى الآن. التجاذبات متعدّدة ومتناقضة، والرئيس باراك أوباما في قلب دائرتها. القرار ليس سهلاً. موقف أوباما دقيق وصعب. إذا نجح اختياره، فالجميع شريك له في النجاح. الفشل له أب واحد، هو أوباما في مثل هذه الحالة. صعوبة إضافية، ليس سهلاً الرقص مع مَن كنت تكره حتى النظر إليه، وتقاطعه وتحاربه وكأنه الشيطان الأكبر أو محور الشرّ. الثقة شبه معدومة. في البداية يجب بناء جسور الثقة. في مثل حالة الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الإسلامية في إيران يجب انتظار نتائج المفاوضات بالنار التي تجري يومياً على مساحة منطقة الشرق الأوسط الكبير.
سياسة العصا والجزرة
أوباما لا يمكنه حالياً التخلي عن سياسة العصا والجزرة. طبعاً قام منذ لحظة انتخابه رسمياً، وعلى الأرجح قبل ذلك، بوضع العصا خلف ظهره من دون أن يتخلى عنها، في الوقت نفسه رفع الجزرة عالياً. طهران ما زالت تضع الرئيس أحمدي نجاد في المقدمة وتهدّد يومياً بالتجديد له، وكأنه هو الذي يأخذ قرار الحرب والسلام، لأنها تريد من أوباما التخلي عن العصا قبل الدخول إلى المفاوضات الحاسمة. أكثر من ذلك، تعمل على استفزاز النمر الجريح الذي يريد أن يتعافى أولاً وقبل أي شيء، فتحرجه من دون أن تخرجه. كأن تتعمّد في احتفالات الثورة إطلاق قمر صناعي إشارة فضائية لاقتراب امتلاكها لصواريخ عابرة للقارات.
الاتصالات الإيرانية ـ الأميركية بدأت قبل سنة تقريباً من نهاية ولاية جورج بوش الرئاسية. العراق كان السبب والهدف. في هذه المفاوضات طلبت طهران الاعتراف الأميركي بدورها وموقعها في العراق رسمياً، مقابل تعاونها. التطورات الميدانية أكدت يومياً أن اتفاقاً محدداً قد حصل وأنّ الأميركيين والإيرانيين ينفذون ما اتفقوا عليه حرفياً. هذا النجاح وضع اللبنة الأساسية في بناء جسور الثقة. عملية البناء ما زالت مستمرة من العراق امتداداً إلى أفغانستان. المشكلة على ضفاف البحر المتوسط. المواجهة هي السائدة، لأنّ شروط المفاوضات لم تكتمل بعد. وجود الطرف الثالث وهو إسرائيل، يعرقل كل شيء ويدفع باتجاه التصعيد، وصولاً إلى اتخاذ القرارات الصعبة والملزمة.
إذا كان العديد من السياسيين الإيرانيين يتجاسرون حالياً ويتكلمون علناً عن أهمية وأحياناً ضرورة الحوار مع الأميركيين، ففي واشنطن نفسها حيث الحرية في إبداء المواقف من صلب النظام ومؤسساته، تحوّلت الدوائر الصغيرة التي دفع نحو تشكلها بضعة سياسيين وخبراء، إلى أمواج حقيقية تُرى في العاصمة الأميركية بالعين المجردة، وهي إما مواقف وإما آراء موثقة.
الدوائر المائية والأمواج
[ زبغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر ورأس تيار الديموقراطيين الجدد وبرنت سكوكروفت مستشار الأمن القومي لرئيسين جيرالد فورد وجورج بوش الأب، اللذين عارضا الحرب ضدّ العراق لأسباب مختلفة، أكدا في كتاب مشترك لهما، أن الحرب ضدّ العراق دعمت وعزّزت النفوذ الإيراني فيه. الحل هو في الوصول إلى سلام فلسطيني ـ إسرائيلي، واعتماد الحوار مع إيران. سكوكروفت ذهب أخيراً أبعد من ذلك فطالب الرئيس أوباما باعتماد الواقعية والخروج من تقسيم العالم بين مَن معنا ومَن هم ضدّنا. الكتاب نشر في أيلول قبل انتخاب أوباما، وكان عملياً موجّهاً له.
[ إن مفاوضات جدّية وعلى أعلى مستوى ـ رغم بعض النفي هنا وهناك قد جرت قبل انتخاب أوباما، مع مسؤولين إيرانيين رفيعي المستوى. وليام بيري وزير الدفاع السابق الذي عمل في حملة أوباما الانتخابية كان أحد المشاركين فيها. خصصت الجلسات العديدة كما كشفها جيفري بوتويل مدير منظمة باغواش التي منحت جائزة نوبل للسلام عام 1995، لدرس مجموعة من المشاكل التي تسبب الخلافات بين إيران والغرب، ضمّت الملف النووي وعملية السلام في الشرق الأوسط وقضايا مرتبطة بالخليج.
[ طالب خبراء من بينهم ريتشارد هاس وغاري سامرز في تقرير صدر في مطلع هذا الشهر عن مجلس العلاقات الخارجية ومعهد بروكينغز، بعنوان إعادة التوازن لاستراتيجية الرئيس أوباما في الشرق الأوسط، الرئيس الأميركي المنتخب بالوفاء بالعهود التي قطعها أثناء حملته بشأن الدخول في مفاوضات مباشرة مع طهران إذا ما كان يريد احتواء الأزمة المعقدة التي يمكن أن ترتد على الولايات المتحدة الأميركية. التقرير شدّد على أن الديبلوماسية ليست مضمونة لكن الخيارات الأخرى مثل القيام بعمل عسكري أو العيش مع الأسلحة الإيرانية غير جذابة بما يكفي. وحذر التقرير الإدارة الأميركية الجديدة من الوقوع في فخ عزل إيران كما فعلت إدارة بوش، مشيراً إلى أن هبوط أسعار النفط يعطي فرصة للحدّ من وسائل إيران لرعاية حماس وحزب الله.
[ روبرت بير الذي خرج من دائرة القرار لكنه ما زال يؤثر فيه بكتاباته، لأنه سبق له وأن شغل رئيساً لفرع المخابرات المركزية في الشرق الأوسط ثم انشق عنها، طالب علناً في كتاب عنوانه إيران ـ الصعود الذي لا يقاوم، بالتفاوض بسرعة مع إيران، لأن الخيار الآخر هو محاربتها لثلاثين سنة قادمة. الخبير الأميركي الميداني الذي كما يبدو من الكتاب ما زال محتفظاً بعلاقات وثيقة في منطقة الشرق الأوسط، تساءل باسم ماذا علينا شنّ حرب ضد إيران؟ الديموقراطية أم الصهيونية؟ وخلص بير إلى أن ذلك سيكون نوعاً من الجنون المطبق، خصوصاً وأن أي حرب في منطقة مضيق هرمز الذي يمكن للقوات الإيرانية السيطرة عليه بعد تدمير العديد من حقول النفط ستؤدي إلى رفع سعر برميل النفط إلى اربعمئة دولار، بذلك سيواجه الاقتصاد الأميركي ضربة جديدة وهو لم يخرج بعد من الأولى، ويرى بير أنه لا يؤمن بسلاح نووي إيراني، كما لم يؤمن بامتلاك صدام حسين أسلحة تدمير شامل.
هذه المواقف والآراء، التي هي من صلب صناعة القرار في الولايات المتحدة الأميركية، يتجاوز دورها دفع الرئيس باراك أوباما نحو الانحياز لها. أيضاً الإدارة تدرس انعكاساتها داخل الرأي العام الأميركي. انحياز الرأي العام الأميركي نحو الحوار، يسهل مهمة الرئيس الأميركي.
يبقى أن للحوار الأميركي ـ الإيراني انعكاساته الواسعة والعميقة في المنطقة. أثناء الحوار إذا بدأ، لا بد أن تحدث اختبارات ميدانية من هذا الطرف أو ذاك. كل طرف لا بد أن يختبر الطرف الآخر ليتأكد من قدرته على القرار والتنفيذ. من الطبيعي أن كل ملف في سلة التفاوض سيكون ساحة مفتوحة للطرفين، يستخدم كل طرف أوراقه حتى اللحظة الأخيرة. هنا تكمن قيمة الحذر من القوى الموجودة على الأرض، خصوصاً في حالة لبنان، لأن التفاوض سيكون بعيداً عن عمق الالتزامات بلبنان الغائب حكماً عنها، مثلما كان حاصلاً في حالة العراق سابقاً ولاحقاً. طبعاً هذا في حالة المفاوضات، أما في حالة المواجهة فإن الاحتمالات مفتوحة على كل المخاطر.
سؤال واقعي جداً، كرة الثلج التي رماها الرئيس بشار الأسد عن مشاركة لبنان في المفاوضات مع إسرائيل متى أصبح ذلك طبيعياً وضرورياً، كيف سيكون حجمها عندما تصل إلى الخط الفاصل والحاسم مع المفاوضات الأميركية ـ الإيرانية؟. ماذا سيكون موقف طهران من هذه الدعوة خصوصاً وأنها تعني أساساً حزب الله الابن الشرعي والوحيد للثورة الإسلامية في إيران؟ وماذا سيكون موقفها من دمشق التي تفاوض وتقايض من كيس غيرها؟ كلها أسئلة برسم التفكير والتحضير النفسي أولاً لمواجهتها!.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.