منذ البداية، كان الرئيس بشار الأسد يشتري الوقت في علاقاته مع الرئيس نيكولا ساركوزي، حتى يأتي دور الانفتاح والعلاقات مع واشنطن. أدار الرئيس السوري من الأساس مع نظيره الفرنسي اللعبة على قاعدة بلياردو الكرات الثلاث. صوب دائماً على الكرة البيضاء الفرنسية، ليصيب الكرة الأميركية الحمراء. رغم كل المحاذير والتحذيرات دخل ساركوزي اللعبة بحماسة غير عادية، وتابعها وكأنه هو الذي يديرها وحده وحسب حساباته الخاصة جداً، فسارع الى فتح الأبواب على مصراعيها أمام الأسد الى درجة انه وضع كل آماله في إنجاح مشروعه الذي اطلقه أولاً تحت اسم الاتحاد من اجل المتوسط على إرادة الأسد ومشاركته. ساركوزي حصل على مهرجان ضخم والأسد حصد مفاعيل فك عزلة دمشق.
هدايا دمشق المحسوبة
طبعاً، أثناء فترة الانفتاح بين باريس ودمشق، التي انتجت أيضاً تطبيع العلاقات الأوروبية ـ السورية، قدمت دمشق لباريس هدايا سياسية وأمنية من كيس غيرها، بقالب زهري يؤكد أمران مهمان:
ـ عمق التوافق، والتعاون السوري في الملف اللبناني الذي كان أساسياً وأولياً لفرنسا. الدليل رفع الحواجز أمام انتخاب رئيس للجمهورية، مع أن هذه الهدية، تؤكد أن الفراغ الرئاسي كان في أساسه بدور سوري مئة في المئة.
ـ قدرة دمشق على الشراكة الميدانية في الحرب ضد الإرهاب خصوصاً وانها هي ضحية لهذا الإرهاب. أيضاً قدمت دمشق هدايا تمس عصباً أساسياً لباريس في هذا المجال خصوصاً في الجانب المغاربي منه.
هذا التعاون الكامل من دمشق قدمه ساركوزي لواشنطن المأزومة في العراق وعلى مشارف انتهاء ولاية جورج بوش، ومراهنته على باراك أوباما مرشح التغيير، مثالاً لما يمكن أن تفعله دمشق إذا ما انفتحت عليها واشنطن وأعادت العلاقات معها، لان دمشق هي حجر الأساس في عملية السلام في منطقة الشرق الأوسط، وهي ذات حضور فاعل في الملفات الثلاثة وهي: العراق ولبنان وفلسطين.
الرئيس الفرنسي، لم يفعل ما فعله مع الرئيس بشار الأسد، لأنه يحب العمل الخيري. في السياسة لا يوجد مجال لكاريتاس، كل ما يجري هو عملية تبادل مصالح ومقايضتها. ساركوزي كان وما زال يريد حجز مقعد رئيسي على طاولة المفاوضات ودخول التاريخ، عبر مشاركة طليعية وفاعلة بالتوصل الى حل للنزاع العربي ـ الإسرائيلي، خصوصاً وانه تأكد يوماً بعد يوم انه يسير من فشل الى فشل في السياسة الداخلية. فقد نجح في جانب واحد وهو الدخول في قطيعة كاملة بدلاً من إنجاز سياسة القطيعة التي وعد بها الفرنسيين في حملته الانتخابية.
الحرب ضد غزة والجرائم ضد الانسانية التي وقعت خلالها، ايقظت العالم، رغم التحفظات الكلامية الرسمية دولياً. واشنطن الغارقة الى اذنيها في مواجهة الأزمة المالية والاقتصادية التي انتجت نسبة غير مشهودة من البطالة في الولايات المتحدة الأميركية، اضطرت الى مواجهة الواقع في منطقة الشرق الأوسط. الرئيس الأميركي باراك استدار بزاوية 180 درجة باتجاه الشرق، فأكد اهتماماته وعدم تأجيله معالجة هذا الوضع الى ما بعد ضمان مسار ايجابي لمعالجة الأزمة المالية، بالعديد من الخطوات خصوصاً في تعيين جورج ميتشل مبعوثاً دائماً له في الشرق الأوسط.
خيبة ساركوزي من أوباما
عندما أحدث ساركوزي الانفتاح على دمشق، بعد أن تولى الإليزيه ادارة الديبلوماسية الفرنسية دون العودة لوزارة الخارجية، كان يأمل أن تكون العلاقة مع دمشق والعودة الى الأطلسي ما يمكن وصفه بأوراق الاعتماد الى باراك أوباما. ما حصل منذ القسَم في العشرين من كانون الثاني حتى الآن، أكد أن رئيس التغيير في واشنطن يفهم الشراكة مع الآخرين على غير ما يريده ساركوزي.
ولا شك ان أكثر ما صدم باريس حتى الآن، أن أوباما لم يلبِ رغبة ساركوزي بأن يكون أول رئيس عالمي يدخل البيت الأبيض في عهده، كما أن البيت الأبيض تجاهل وثيقة افينيون الأوروبية حول الشراكة والمشاركة في ادارة مصائر العالم. أكثر من ذلك أن واشنطن وهي تواجه مفاعيل الأفغنة ترى بعكس ما يراه الآخرون ان امكانات الانتصار في افغانستان ممكنة وهي حالياً توسع دائرة الحرب ما يقتضي الاسراع بالعمل لتضييق دائرة الوجود الأميركي في العراق بكل ما يتطلب هذا من تعاون مع طهران ودمشق.
لن تخرج باريس من مستقبل التحولات في الشرق الأوسط، لكنها لن تحصل على موقع رئيسي كما كانت ترغب. الدور الأول وبعده يجب أن يتم العد التنازلي عدة مرات، سيكون لواشنطن. العروض الدمشقية لواشنطن بدأت تنهال يومياً. كلما أرسلت واشنطن مداورة أو مباشرة وفداً سياسياً، ارتفع حجم العروض. الرئيس السوري رحب بنفسه بالجنرال ديفيد بترايوس رئيس القيادة المركزية للجيش الأميركي بقوله: نود أن نلقى بترايوس هنا في سوريا. آخر العروض كما يقال ان جرى اثبات وجود قيادات ارهابية مثل شاكر العبسي قائد فتح الاسلام في السجون السورية. كما يجري التعاون بقوة في العراق ضد قيادات الارهاب من القاعدة وغيرها. كما أصبح مؤكداً أن ارسال سفير سوري الى بيروت كما تعهدت دمشق لباريس، سيكون هدية لواشنطن فور ارسالها سفيراً لها الى دمشق (كانت المستقبل قد كشفت عن ذلك قبل أكثر من شهر).
يد دمشق كانت دائماً مفتوحة أمام واشنطن التي كانت قبضتها المنقبضة. لذلك لا مفاجأة اذا ما تسارعت الخطوات نحو تطبيع العلاقات بين دمشق وواشنطن، والدخول في مسار طويل من التعاون. علماً أن دمشق على علم كامل ان المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري أصبحت ثابتة لا يمكن إلغاؤها ولا المناورة عليها، ولذلك يجب أخذ مفاعيلها في حساباتها السياسية.
الى جانب هذا الثابت، فإن ثابتاً آخر يبدو قائماً ولا عودة عنه، وهو ارادة واشنطن برؤية استمرار لبنان على مسار التعافي والاستقرار والاستقلال. لذلك فإن متابعة هذا المسار أميركياً يدخل في صلب السياسة الأميركية تجاه دمشق، لا يعني هذا أن واشنطن ستنسف الجسور التي ستقيمها مع دمشق، فور حدوث أي حدث أو خلل في لبنان. على الأقل فإنها ستنبه دمشق فوراً، خصوصاً وان سيف المحكمة مع محاكمة بدلاً مما تريده دمشق محكمة بلا محاكمة سيبقى قائماً.
المصالحة العربية ـ العربية زائد العلاقات الأميركية ـ السورية في هذه المرحلة هي عامل ايجابي لمستقبل التهدئة والهدوء في لبنان. يبقى ماذا سيفعل اللبنانيون للتعامل مع ايجابيات هذا التحول لاستثماره لتحصين الداخل اللبناني على المدى الطويل، بحيث لا تقع متغيرات مفاجئة تعيده الى وسط حزام النار.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.