مستقبل الاستقرار في لبنان معلق على مستقبل المفاوضات التي بدأت والتي لم تبدأ بعد، والمصالحات التي أنجزت والتي ما زالت في مطابخ القرارات لتنجز. الاطمئنان ممنوع، لأن كل شيء ما زال خطوة على مسارات طويلة. من الطبيعي جداً عندما تكون الرحلة طويلة، والمطبات الجوية عديدة وصعبة في العديد من الحالات، أن يصبح الجو العام ضاغطاًً وأحياناً خانقاً ومتوتراً.
ما يرفع من درجة هذه الحالة الشعبية الواقعية، أن لبنان على موعد مع استحقاق الانتخابات التشريعية التي لا شك ستكون مفصلية مهما كانت نتائجها. حقيقة هذه الانتخابات أن كل صوت فيها سيكون لبنة إما في الجسر الذي يعيد سلطة القرار الى دمشق أو في السد الذي يبقي القرار الدمشقي خارج لبنان، ولكن دائماً في إطار من الاحترام المتبادل والعلاقات الاخوية المتكافئة التي تأخذ في الاعتبار الحقوق والواجبات الشرعية لكل طرف باتجاه الطرف الآخر.
خسائر الملاكمة وأرباحها
أمر ثابت حالياً، وهو أن جواً من التهدئة وصولاً الى المصالحة الواقعية يسود المنطقة. ولا شك أن العنوان الأكبر لكل ذلك إنجاز المصالحة السورية ـ السعودية ومن ثم اكتمالها بمصالحة مصرية ـ سورية. إذا ما حصل ذلك، فإن ملفات عديدة ستتأثر سواء في لبنان أو فلسطين وحتى العراق.
لقد طالت اللعبة التي أجادتها دمشق وهي توجيه اللكمات الى الآخرين عبر هذه الملفات بعد تحويلها الى حلبات لا يهمها منها ما يصيب الملاكمين من إصابات دامية، المهم ما تجنيه من كل جولة من نقاط تضيفها الى رصيدها التفاوضي لاحقاً.
دمشق ترغب بلا شك في استثمار هذا الجو التصالحي، وفي هذه اللحظة الاستثنائية، وهي بدء مرحلة تفاوضها مع واشنطن، اللقاءات التي جرت بين الرئيس بشار الأسد والنواب والشيوخ الأميركيين خصوصاً مع جون كيري مهمة، وهي عملت على تمهيد الطريق نحو المفاوضات، خصوصاً وأن العديد منها كان استطلاعياً. لقاء السفير السوري عماد مصطفى السفير جيفري فليتمان هو الجلسة الأولى في المفاوضات الجدية، لأنه الأول الذي يجري مع أحد أعضاء السلطة التنفيذية بغض النظر عن موقع فيلتمان في هرم السلطة.
دمشق تملك حزمة مهمة من الملفات التي يمكنها التفاوض حولها وعليها. واشنطن تعرف ذلك جيداً لذلك تريد وستعمل على إضعاف موقع دمشق التفاوضي. الملف النووي وبعيداً عن شرعية وحق سوريا بامتلاك هذه القوة، يشكل ورقة ضغط قوية جداً عليها خصوصاً إذا ما ثبت أن دمشق تعمل لحساب طهران بحيث تشكل قاعدة خلفية لمشروعها النووي.
الضغوط الأميركية ستتزايد خلال المفاوضات على دمشق، هدف هذه الضغوط وهي أوروبية أيضاً العمل على فصل دمشق عن طهران، قد لا تنجح هذه الضغوط بفصل التوأم السيامي حالياً، لأنه إذا كانت دمشق تفاخر بأنها حققت معجزة سياسية بالقبض على العصا الإقليمية من وسطها وذلك بجمعها في العلاقات مع طهران المتشددة والمتطرفة من جهة وأنقرة المعتدلة، فإنها تتغافل أيضاً أن كل طرف من الطرفين يمسك بطريقة أو أخرى بجزء أساسي من قرارها السياسي ويفرض عليها شروطه وقواعده.
الرسالة ـ الوعد
أيضاً وهذا مهم جداً فإن المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ستبقى سيفاً مصلتاً من قبل المجتمع الدولي على دمشق. كل جلسة من جلسات المحكمة، لا بد أن يكون لها صدى في دمشق.
عندما يشدد المحقق ديتليف ميليس على أن قناعته ما زالت كما هي يوم أنهى عقده بأن أفراداً لبنانيين وسوريين في الأجهزة الأمنية لعبوا دوراً في الاغتيالات وأن تحضير الجريمة اقتضى عدة أشهر خصوصاً وأن مجموعة لها تنظيم واسع وتتمتع بموارد وقدرات كبيرة قامت بالاغتيال، فإنه يوجه رسالة قوية للجميع بأنه موجود ليتحمل أي جزء أساسي من المسؤولية، في حال جرى أي تفاوض أو مقايضة رغم أن ذلك مستحيل، لأنه يعرف بقوة الحقيقة.
قلق ديتليف ميليس من تحويل المحكمة الى محكمة بلا محاكمة بحيث تطول المحاكمة وينساها الناس حقيقي وواقعي. أكثر من ذلك فإنه يوجه تحذيراً واضحاً يضيء كثيراً على أهمية الانتخابات التشريعية، وهو أن التلاعب بمستقبل المحاكمة يمكن أن يتم عبر الحكومة اللبنانية بأن تمتنع عن تمويل المحكمة، وهو ما يعادل نصف ميزانيتها لألف حجة وحجة. بهذا التحذير يضع واشنطن وباريس أمام مسؤوليتهما، والأهم يضع اللبنانيين الذين يريدون العدالة وهم الأغلبية بلا شك أمام مسؤوليتهم عندما سيدخلون غداً الى غرف الاقتراع في السابع من حزيران المقبل. بهذا التحذير ستبقى الانتخابات المقبلة ملاحقة من المرصد الغربي القوي.
استقرار لبنان ممكن خصوصاً إذا بدأ التفاوض بين واشنطن وطهران. لا يمكن لدمشق أن تلعب متجاهلة طهران ومصالحها. طهران تغض النظر في أحيان كثيرة عن اللعب خارج ملعبها، لكن أي محاولة تطال أو تمس أمنها القومي غير مقبول السماح بها مهما كانت محدودة. لذلك فلا دمشق ولا أي طرف آخر مسموح له التلاعب بمواقعها ومصالحها الاستراتيجية، خصوصاً وأنها تعتبر نفسها هي القوة الإقليمية الكبرى والآخرين لاعبين معها أو في أقصى الأحوال حلفاء لهم حقوقهم لكن عليهم واجبات ثابتة ومؤكدة.
الأزمة المالية والاقتصادية غير المسبوقة، وضعت الرئيس باراك أوباما وإدارته أمام واقع لا يمكن له إلا أخذه في الاعتبار وهو الواقعية السياسية الشديدة، كل ما يساعد واشنطن على الخروج من الحفرة العميقة لهذه الأزمة مقبول. المصالحة مع إيران ممكنة إذا كانت تساعده على ترتيب الأوضاع في العراق وحتى في أفغانستان، وهي أيضاً مقبولة مع دمشق إذا كانت تساعده في التهدئة ومن ثم الحل في غزة وفي لبنان. مشكلة أوباما الحقيقية هي إسرائيل.
أوباما لا يستطيع أن يدير ظهره لإسرائيل مهما رغب بذلك، لأن ذلك يمس صلب المؤسسة في الولايات المتحدة الأميركية. وهو أيضاً لا يستطيع الانتظار حتى يغير بنيامين نتنياهو رأيه وينقلب على نفسه. الأسوأ انتظار إجراء انتخابات تشريعية جديدة على وقع نظام انتخابي جديد لأن أي انتخابات أخرى ستأتي بكنيست مماثل حتى ولو اختلف عن الحالي بصوت أو أكثر. لذلك السؤال الكبير ماذا سيفعل أوباما؟ وهل سيجترح حلاً مقبولاً يخرجه من هذا الوضع المعقد من دون أن يصطدم مع بعض المؤسسة في واشنطن، فيخسر كل شيء؟.
لأول مرة الكرة في ملعب الولايات المتحدة الأميركية والخصم الذي رمى الكرة اليها هو إسرائيل، لذلك من مصلحة العرب أخذ هذا التطور في الاعتبار بالتفاهم مع طهران وأنقرة، أما لبنان فإنه مهما كانت الانتخابات التشريعية مهمة جداً فإن تمرير قطوعها أهم بكثير، لأنه مصيري!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.