زيارة الدولة للرئيس ميشال سليمان لفرنسا، مهمة جداً برغم رمزيتها. هذه الزيارة هي الأولى لرئيس عربي منذ انتخاب نيكولا ساركوزي رئيساً للجمهورية قبل 22 شهراً. قبل الرئيس اللبناني، زار الرئيس بشار الأسد والزعيم الليبي معمر القذافي، لكن الزيارتين كانتا إما في اطار قمّة موسّعة أو عادية. زيارة الدولة، هي الأرفع في البروتوكول الفرنسي. علم الدولة الزائرة يبقى ثلاثة أيام مرفوعاً ومرفرفاً في جادة الشانزليزيه. إلى جانب ذلك، فإنّ الرئيس سليمان استقبل كما يقضي البروتوكول رسمياً في المطار، لينتقل منه بطائرة هليكوبتر إلى ساحة الانتاليد ومن ثَمّ تواكبه خيّالة الحرس الجمهوري إلى قصر الاليزيه فيدخله على سجادة حمراء.
برنامج حافل ومكثف
البرنامج الحافل والمكثف الذي أعدّته باريس للرئيس اللبناني، يتضمن تكريماً خاصاً جداً، أريد منه إعادة التأكيد الشامل بعمل فرنسا لمصلحة لبنان واستقلاله وسيادته، وعلى أساس قاعدة واضحة وصلبة بأنّ فرنسا كانت وستظل بلداً صديقاً وحليفاً له. أبعد من ذلك، تريد باريس الرسمية من كل ذلك، تشديد دعمها الكامل للدولة اللبنانية وللرئيس سليمان وسط كل هذه التقاطعات والاختلافات اللبنانية ـ اللبنانية. وهذا الموقف الفرنسي ليس إلا تجديداً لموقف تاريخي في دعم موقع الرئاسة في لبنان، بعيداً عن الفترة الزمنية المحدودة من المقاطعة في أواخر عهد الرئيس إميل لحود. ولأنّ الزيارة تبقى رمزية وسياسية، فإنه يجب عدم انتظار الإعلان عن أشياء مهمة خلال الزيارة فقد سبق لرئيس الوزراء الفرنسي فرنسوا فيلونن ان دفع مع لبنان ما اتفق عليه.
الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، أحدث القطيعة في السياسة الخارجية الفرنسية. مع عودة فرنسا إلى القطاع العسكري في الحلف الأطلسي، تكون قد خلعت قطعة مهمة من ثوبها الديغولي. ليس هذا هو التغيير الوحيد. فرنسا الساركوزية أكثر أميركية من كل عهود الجمهورية الخامسة ربما لبنان هو الحلقة الصغيرة في السياسة الساركوزية التي وإن تأثرت بسياسة القطيعة فإنها بقيت صلبة وفي موقع مهم من السلسلة السياسية الخارجية الفرنسية. لم يستطع ساركوزي أن يوقع القطيعة فيها وإن وضع لسياسته خطاً وخريطة طريق مختلفة جداً عن سلفه جاك شيراك.
الديبلوماسية الفرنسية تعرف جيداً مدى قلق معظم اللبنانيين من انفتاحها على دمشق، ليس لأنهم يريدون استمرار محاصرة دمشق ولكن لأنهم يخافون من أن يكونوا في أي لحظة ملفاً على طاولة المفاوضات تجري مقايضته أو التفاهم حوله دون حساب لهم. أمام هذه الحساسية، أكدت هذه الديبلوماسية جملة مواقف هدفها الإيحاء للبنانيين بالطمأنينة
ان المحكمة الدولية قد انطلقت ولا يمكن أن ترجع إلى الوراء وهي خارج المفاوضات والصفقات، وإذا كان السوريون بريئين فيجب أن يطمئنوا وإذا كانوا متورطين فعليهم أن يقلقوا.
لا اعتراف فرنسياً بمصالح استراتيجية لسوريا في لبنان.
ان الانتخابات التشريعية يجب أن تحصل بهدوء وان الجميع سيقبل نتائجها وان الحكومة المقبلة لن تكون حكومة قطيعة، لكن هذه الديبلوماسية لم تحدد ماذا تفهم بالتوافقية المطلوبة في تأليف الحكومة المقبلة.
المصالحات العربية
تبقى عقدة العقد في كل هذا الموقف للديبلوماسية الفرنسية، علماً انه يشكل وجهاً واحداً لا يكتمل إلا برؤية الوجه الآخر لموقف قصر الاليزيه الذي له الأولوية في عهد ساركوزي، مسألة المفاوضات المباشرة أو غير المباشرة مع إسرائيل التي يراد للبنان الانخراط فيها، لأنه من غير الممكن ان يبقى لبنان بعيداً عن العملية الاقليمية والمفاوضات مع إسرائيل. هذه الدعوة للبنان الرسمي لا يمكن أن تصبح واقعية دون انقلاب موقف حزب الله الرافض لها والتي يؤازره فيها قوى وشرائح لبنانية ضخمة وواسعة وأساسية. السؤال لماذا تبيع باريس جلد الدب قبل اصطياده، وخصوصاً أن مسار المفاوضات سيبقى معلقاً لفترة طويلة بعد وصول الثنائي نتنياهو ـ ليبرمان إلى السلطة. ما يثير القلق أكثر ان هذا المطلب الفرنسي يعزز العرض الذي تقدم به الرئيس بشار الأسد إلى الترويكا الأميركية ـ الفرنسية ـ الإسرائيلية حول انضمام الحزب وحماس إلى المفاوضات المباشرة عندما تنعقد.
لم يعد لبنان بوابة فرنسا إلى الشرق. غيّرت باريس الساركوزية الأولويات، أصبح لدمشق موقعاً مميزاً في خريطة الطريق الساركوزية في الشرق الأوسط. مشروع اتحاد حوض الأبيض المتوسط بمسمياته المختلفة ساهم في هذا التغيير. هذا المشروع بلا دمشق لا يكتمل ولا يحقق الهدف الطموح لساركوزي الراغب في دخول التاريخ عبره. المساهمة في حل النزاع العربي ـ الإسرائيلي يشكل بنداً أساسياً من هذا النهج لدخول التاريخ.
ساركوزي يريد تأكيد صداقة فرنسا للبنان، ولكن أيضاً التأكيد على خصوصية العلاقة الجديدة بدمشق. طبعاً المفاوضات غير المباشرة السورية ـ الإسرائيلية عبر أنقرة شجعته على التعجيل في عملية التطبيع. ساركوزي لا يخفي مطلقاً تعلقه بإسرائيل ولا بصداقته مع بنيامين نتنياهو منذ فترة طويلة. الآن تعرف الديبلوماسية الفرنسية ان نتنياهو ليس متحمساً لعودة المفاوضات مع سوريا. لكن هذه الديبلوماسية لم تيأس لأنها تعتقد بأن نتنياهو قد يغير رأيه بعد تشكيله الحكومة ولأن ساركوزي صديقاً مقرّباً منه فقد ينجح بإقناعه بتغيير موقفه. طبعاً لا شيء يؤشر إلى هذا النجاح لأن نتنياهو ليس وحده صاحب القرار، افيغدور ليبرمان أيضاً صاحب قرار وهو الذي سيقود الديبلوماسية الإسرائيلية، مما يطرح سؤالاً كبيراً على الرئيسين الفرنسي ساركوزي والاميركي باراك اوباما وهو: ماذا بعد ليبرمان وليس ماذا مع ليبرمان؟!
حتى لو كانت زيارة الدولة للرئيس ميشال سليمان رمزية فإنها تأتي في وقت مناسب جداً مع المصالحات والتهدئة العربية ـ العربية. كل هذا يشجع خروج لبنان من عين الاعصار، وأول ذلك تمرير الانتخابات التشريعية بهدوء، مما يساهم في دفع عجلة الاقتصاد اللبناني في ظل الأزمة الاقتصادية الدولية التي وإن نجح لبنان بتجاوزها بأقل اضرار ممكنة في العالم، فإنها لا بد ان تطاله ولو بحدود مما يزيد الأسباب لمزيد من تحصين نفسه بنفسه. العام 2009 صعب جداً على العالم ومنه لبنان. من يخرج منه بأقل أضرار ممكنة يصبح المستقبل أمامه واعداً.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.