طهران تمر في مرحلة دقيقة وحساسة ومليئة بالغموض. ادراك المسؤولين فيها على هذا الوضع ما دفعهم لمزيد من إعادة الحسابات على جميع الجبهات والمستويات، إنطلاقاً من فهم موضوعي بأن العالم بعد انتخاب باراك أوباما ووقوع زلزال الأزمة المالية وتراجع أسعار النفط الى الثلث تقريباً هو عالم آخر مختلف من أصعب لحظاته في زمن إدارة الرئيس جورج بوش، اضافة الى ذلك انزلاق إسرائيل كلها وليس حزباً أو قوى سياسية معينة نحو مستنقع اليمين المتطرف، يرفع من منسوب هذا القلق. الذي وان لم يعلن عنه رسمياً أو عالياً بشكل غير رسمي، فإنه أمر واقع لا يمكن إغفاله أو عدم الشعور به.
إعادة الحسابات الايرانية
إعادة طهران لحساباتها الداخلية والخارجية معاً، تمظهرت في جملة تحركات سياسية وديبلوماسية، تشكل حلقاتها سلسلة واحدة، حتى وان بدت من بعيد أنها حلقات مستقلة كل واحدة منها لها مكوناتها وأسبابها الخاصة من ذلك:
أن انسحاب السيد محمد خاتمي من الانتخابات الرئاسية، قد يكون نابعاً من خصوصية شخصيته المشدودة الى أخلاقية سياسية مميزة. لذلك نفذ خاتمي تعهده بأن يكون المرشح الوحيد للإصلاحيين أو لا يكون، فجاء قراره الفوري الانسحاب بمجرد أنه أعلن مير حسين موسوي ترشحه للانتخابات.
الواقع أن عودة موسوي الى الواجهة السياسية بعد ابتعاد طويل عن المسرح السياسي رافقه غياب عن الحضور ولو الإعلامي، يبدو أمراً مبهماً. لو لم يتلق موسوي دعماً من أقطاب إصلاحيين مثل غلام حسين كرباستجي رئيس بلدية طهران والرجل الثاني بعد الشيخ هاشمي رفسنجاني في حزب كوادر البناء، الى جانب تأييد شرائح واسعة من المحافظين، ما خرج من الظل الى العلن. المعروف أن موسوي كان رئيساً للوزراء في مطلع الثمانينات عندما كان السيد علي خامنئي رئيساً للجمهورية وفي وقت كان فيه موقع رئيس الوزراء أقوى من رئاسة الجمهورية. وقد عُرف موسوي بحسن إدارته للاقتصاد في زمن الحرب (ما يشكل ترشيحه رداً مبرمجاً على فشل سياسة أحمدي نجاد الاقتصادية) وتأييد الإمام الخميني له في مواجهة الرئيس خامنئي.
حتى هذا لا يكفي لتوضيح خطوط السجادة التي تحاك حالياً في كواليس القرار في إيران. يوجد قلق من استمرار الانتخابات الرئاسية على وقع انشقاق صدامي بين جبهتين وقطبين في مرحلة لم يعرف فيها بعد حقيقة مسار العلاقات المستقبلية مع إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما. لذلك كله ليس مستبعداً أن يكون هذا التطور كله مدخلاً لاختيار مرشح وفاقي يضمن انتخابات هادئة، بانتظار تحديد خريطة طريق كاملة للتعامل مع الغرب وتحديداً مع الولايات المتحدة الأميركية. وإذا كان أحمدي نجاد اشارة حمراء أمام الحوار مع واشنطن فإن خاتمي يشكل اشارة خضراء من المبكر جداً إضاءتها. والافضل الاتفاق على اسم يشكل اشارة برتقالية يتم من خلالها ترك الخيارين مفتوحين، بهذا يبرز جيداً ان القرارات الدولية متداخلة حتى بين الشيطان الأكبر وعمود محور الشر.
* اندفاع طهران نحو التهدئة على الجبهة العربية واضح جداً. ويبدو أن قراراً إيرانياً ينفذ بسرعة على مسارات عدة أبرزها التهدئة على المسار السني ـ الشيعي. ادركت طهران أن التطورات الأخيرة قد أعادت التوتر الى هذا المسار خصوصاً في مسألة البحرين أو بما يتعلق بمصر وغزة. فقد التقطت طهران بسرعة أن اللعب على هذا المسار يمكن أن يأخذ أشكالاً عديدة لانه يمكن ببساطة لقوى خارجية ان تصب الزيت على النار لتشكل حزاماً حولها يقيدها في مرحلة كل شيء فيها مفتوح على كل شيء، من الحوار والتفاهم الى المقاطعة والمواجهة وصولاً الى الحرب، التي لا تريدها لا مع الأميركيين ولا مع الإسرائيليين.
كرات النار
لا شك أن طهران التقطت بسرعة وقوة عمق غرق المجتمع الإسرائيلي في التطرف بحيث لم يعد الفرق بين العادي منه والمتشدد سوى خيطاً رفيعاً، والدليل ان ما يجمع بنيامين نتنياهو وأفيغدور ليبرمان أكثر بكثير مما يفرقهما.
وفي قلب هذا كله، تجري المزايدة حول التعامل العسكري مع إيران عاجلاً أم آجلاً. ما يقلق طهران ودمشق ان يتنامى مأزق اليمين المتطرف فيندفع نحو مغامرة عسكرية مجهولة النتائج.
هذا المسار الإيراني الجديد نتج وينتج جملة مصالحات تؤكد التهدئة والاتفاق، حيث توجد إيران مباشرة أو بالواسطة. ولا شك أن لهذا التوجه الإيراني حضوراً قوياً في سياسة دمشق ولدى الابن الشرعي الوحيد لها وهو حزب الله، ولدى حركة حماس مهما كابرت في التشديد على استقلاليتها.
وهذه التحولات كلها ضرورية أيضاً لكل طرف على حدة، ذلك أن دمشق وان كانت تسمع كلاماً طيباً كثيراً فإنها لا تعرف القرار النهائي منها خصوصاً وأن الثمن المطلوب منها هذه المرة عليها ان تدفعه من كيسها مباشرة حتى وان بدا أنه من كيس غيرها.
* مسار اقليمي آخر تعمل عليه طهران، وهو العلاقات مع تركيا. في مرحلة معينة بدأت هذه العلاقات وكأنها على حافة السكين ذلك ان أنقرة التي أدارت وجهها نحو الشرق لتنخرط في ملفاته وتعقيداته بعد انسحاب بدأ مع الزعيم التركي اتاتورك، رفضت المحورية التي قد تؤشر الى توجه مذهبي وفضلت لعب دور أكثر حضوراً وأهمية واعتقاد طهران أن تواجد تركيا في المنطقة يحمي جناحها ولا يكشفه، كما يجب ان لا يؤدي الى التزاحم والتنافس فالمواجهة، انتج تفاهماً حقيقياً على التفاهم والتعاون خصوصاً وان بينهما نقطة وصل إستراتيجية هي مواجهة المشروع الكردي الخطر لكليهما لاقامة دولة كردية بدءاً من العراق. لذلك فإن دخول تركيا على خط المفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل لم يعد يقلق طهران، لأن القرار النهائي هو لدمشق وطهران أدرى بشعاب القرار السوري.
انخراط طهران في التهدئة وتقديم الضمانات مهم جداً لها ولكل القوى الإقليمية في الشرق الأوسط. المشروع الإيراني لحيازة الاعتراف الغربي بدورها وحقها في امتلاك القوة النووية السلمية باقٍ وقوي، خصوصاً في ظل غياب أي مشروع عربي مضاد او موازي، لكن يوجد فارق كبير بين تنفيذه بدفع كرات النار في كل الاتجاهات، وبين اللعب بهدوء ودون زرع القلق وأحياناً الخوف لدى الآخرين.
لبنان وان كان يبقى ساحة لمظاهر هذا الحضور ومواجهته، فإنه سيتمتع بفترة معقولة من التهدئة قد تمتد حتى مطلع العام القادم. على اللبنانيين أن يستثمروا كل ثانية منها لدعم جبهتهم الداخلية وتحصينها، لان بعد ذلك لا بد من العودة في مراحل معينة الى التفاوض بالنار. أما إذا انفجر الوضع مع مغامرة إسرائيلية مجنونة، عندها لكل حادث حديث.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.