القصف الجوي الإسرائيلي لقافلة الشاحنات في السودان، عملية خطيرة جداً، لكنها بالتأكيد ليست خارقة كما تعمل إسرائيل على تصويرها. التطبيل والتذمير الإسرائيلي لعملية الخرطوم العسكرية يدل بوضوح على عمق الأزمة التي تعيشها إسرائيل على جميع المستويات وفي جميع الاتجاهات.
عملية الخرطوم يصفها الإعلام الإسرائيلي بأنها مثل أفلام جيمس بوند، وهي تثبت قدرات استخباراتية خارقة وقدرات مهنية كبيرة لسلاح الجو. الواقع يؤشر أن العملية وان كانت في بعض جوانبها التكتيكية مهمة لانها معقدة إلا أنها ليست استثنائية في شيء. السودان ليس العراق عندما قصف السلاح الجوي الإسرائيلي مفاعل تموز. للأسف السودان أرض مكشوفة وسماء مفتوحة. عبور الأجواء السودانية ليس صعباً على أي صعيد. الاختراق المهم هو معرفة وقت مرور القافلة وتحديد مكانها. في عصر الأقمار الصناعية ـ إسرائيل تملك هذه التقنية وهذه القدرات ـ لم يعد يوجد مستحيل على قراءة الصحاري والجبال. يضاف الى ذلك تعاون استخباراتي عميق ومتين بين إسرائيل وعدة دول كبرى ومتوسطة، خصوصاً وأن الراغبين بتوجيه رسائل الى نظام عمر البشير السوداني من جهة والى حركة حماس وحتى إيران عديدون وفاعلون ومؤثرون.
ليس بالخبز وحده الحل
مختلف القوى السياسية من جهة، والجيش الإسرائيلي وقيادته بحاجة ماسة لمثل هذه العملية والأهم لمثل هذه الحملة الإعلامية الجيمس بوندية. من ذلك أن:
*ايهود أولمرت الذي لم يبق له سوى أيام في السلطة وزمن طويل مع الملاحقات القضائية، بحاجة لهذه الصورة التي تدل على قدراته في إدارة الحرب وفي اتخاذ القرارات الصعبة. أولمرت يأمل أن يعود الى السلطة قريباً بعد إجراء انتخابات مبكرة.
*ايهود باراك الذي انضم الى تحالف بين اليمين واليمين المتطرف الذي أدى الى انقسام كتلته النيابية بالنصف بحاجة أيضاً الى ابراز قدرته على إدارة الحرب خصوصاً أنه باقٍ وزيرا للدفاع.
*ابعاد الأنظار الدولية عن جرائم الحرب التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في حرب الرصاص المسكوب ضد غزة بعد ثبوت استخدام قنابل الفوسفور الابيض ضد المدنيين واعترافات بعض جنوده بارتكاب جرائم مباشرة وعن سابق تصميم ضد المدنيين، ضروري ومهم لإسرائيل.
*الحكومة الإسرائيلية الجديدة برئاسة نتنياهو حكومة تحمل في تركيبتها كل أسباب هلاكها. ولا يوجد أي جواب إسرائيلي على كيفية تعايش افيغدور ليبرمان مع ايهود باراك. أحدهما يجب ان يلتهم الآخر سياسياً ليستقيم الوضع. أكثر من ذلك لا يمكن فهم كيفية ضبط حركة الثنائي نتنياهو وليبرمان عدا الآخرين من القوى اليمينية المتطرفة. أما خارجياً، فإن نتنياهو يستطيع أن يبيع الاسرائيليين مشروعه في اقامة هيئة لدفع عجلة السلام الاقتصادي مع الفلسطينيين الى الأمام وأن يؤكد نواياها بتنفيذ 25 مبادرة اقتصادية. لكن ماذا عن المبادرات السياسية. هل الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي هو حول الخبز والماء أم هو حول الأرض والكرامة الانسانية والسيادة؟. اذا كان من الممكن تنفيذ مشاريع اقتصادية في الضفة الغربية فماذا عن غزة وهي حالياً دائرة النار المشتعلة؟.
يستطيع نتنياهو التهرب من كل الاستحقاقات وأن يقوم بعملية عسكرية أو أكثر مشابهة لعملية الخرطوم أو قصف ما تم الاعلان حول الموقع النووي السوري، لكن سيبقى أمامه عقدة كبيرة عليه مواجهتها وهي باراك أوباما. نتنياهو مطمئن الى أن أوباما لا يستطيع الضغط عليه، لأنه لن يواجه اللوبي اليهودي مهما بلغت نواياه من قوة. وهو الغارق الى أذنيه في معالجة الأزمة المالية. أيضاً ليس لديه الوقت للدخول في مواجهات جانبية وان يغرق في مستنقع الشرق الأوسط.
قد يكون في ذلك شيء من الصحة، لكن أوباما لا يستطيع مطلقاً تجاهل الشرق الأوسط أو حتى الاكتفاء بتقديم المسكنات حلولا لأمراضه المعدية أو القاتلة. يبدو أن أوباما يدرك ذلك بعمق ويعرف جيداً ماذا يعني وجود اليمين المتطرف بالسلطة في اسرائيل، وأهمية وجود نتنياهو في مواجهته. لذلك بادر قبل وصول رئيس الوزراء الاسرائيلي المكلف نتنياهو الى واشنطن باسبوع الى القول عملية السلام لن تكون اسهل مما كانت عليه مع نتنياهو، ولكني أعتقد أنها ستبقى ضرورية، لأن الوضع الراهن، لا يمكن أن يستمر. مجرد الاقرار الأوبامي بعدم امكانية استمرار الوضع الحالي يعني اما ان يتغير نتنياهو في السلطة، واما ان تتغير الحكومة في اسرائيل، عاجلاً أو آجلاً لمواجهة التغيير المطلوب، باتجاه المشاركة في الحل السياسي. الحل الاقتصادي ليس أكثر من قصر نظر لمجمل الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي. منذ الآن وجهت واشنطن رسالة غير مباشرة لنتنياهو مفادها اذا رفضت الحديث عن دولتين فلسطينية واسرائيلية، لا ظهور مشتركا له أوباما.
إيران ليست السودان
سواء كانت اسرائيل بقيادة نتنياهو وباراك وليبرمان أم بغيرهم، تقف أمام حائط مسدود آخر وهو كيفية التعامل مع ايران. محاولة اسرائيل تصوير عملية الخرطوم بأنها رسالة الى ايران تؤكد بأن يدها طويلة وقادرة رسالة فاشلة جداً. لأن ايران ليست السودان. لو كانت أي عملية ضد ايران ومواقعها النووية بهذه السهولة لكانت اسرائيل قامت بها. في السودان، ان لم تكن واشنطن شريكة في مثل هذه العملية فإنها موافقة عليها جملة وتفصيلاً.
بالنسبة لإيران أخذ موافقة واشنطن لم تتم في عهد جورج بوش رغم كل التشدد والمغريات فكيف ستنجح اسرائيل في اخذ موافقة واشنطن ـ أوباما على مثل هذه العملية خصوصاً وأن مسار الحوار الأميركي ـ الايراني، قد فتح وهو بدوره سيفتح على مسارات متكاملة من التفاوض؟
يبقى السودان المكشوف على جميع الصعد. عندما يكون رئيس السودان عمر البشير ملاحقاً من المحكمة الجنائية، لا يعود أي شيء غير متوقع. بعيداً عن شرعية الملاحقة الدولية للبشير، واستحقاقه لهذه الملاحقة في الدور المنسوب اليه في دارفور والمجازر ضد الانسانية التي وقعت فيه، فإن خطراً حقيقياً يهدد مستقبل السودان. طوال ثلاثة عقود جرى تهديد وحدة السودان أثناء الحرب الأهلية بين الجنوب والشمال. حالياً وحدة السودان ما زالت مهددة أكثر من أي وقت مضى. الكلام عن تقسيم السودان الى ثلاث دويلات: الشمال المحاصر والجنوب الغني بالنفط والماء، ودارفور الغنية بالأورانيوم ومواد منجمية أخرى، حقيقي. ملاحقة البشير جزء من سيناريو تقسيم السودان. من الواضح أن استثمار وجود البشير في السلطة وفي قفص الاتهام الدولي في وقت واحد يشرعن هذا الاختراق الاسرائيلي لكل ما هو متعارف عليه من السيادة.
أخطر ما في العملية الاسرائيلية ضد السودان وقبلها العملية ضد سوريا، عودة اسرائيل الى سياسة اليد الطويلة لفرض ما تريده. كل شيء يساهم في اندفاع اسرائيل نحو مغامرات جيمس بوندية، من عجزها عن خوض حروب خاطفة على عدة جبهات أو حتى جبهة واحدة، الى اكتشافها بأنها أمام حائط مسدود. مهما تطرفت لن تنجح في اسقاطه.
اسرائيل خطرة وفي خطر، وهي تضع منطقة الشرق الأوسط كلها تحت السكين، والولايات المتحدة الأميركية الأوبامية أمام سياسة أحلى الخيارات فيها مرّ.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.