موسم جوائز الترضية، مقبل على دمشق. بعد سنوات أربع عجاف، يصبح هذا الموسم استثنائياً، كلود غيان أمين عام رئاسة الجمهورية الفرنسية اعتبر بعد لقائه مع الرئيس بشار الأسد: أن الدور المحوري الذي تضطلع به دمشق في المنطقة جيد جداً. واشنطن بدورها منحت دمشق شهادة حسن سلوك علناً وأرفقت هذه الشهادة بالإشارة الى عودة السفير الأميركي اليها بعد سحبه طوال السنوات العجاف. هذا الموقف الغربي متزاوج مع عودة الحرارة الى العلاقات العربية مع دمشق. ربما أعلى درجات هذه الحرارة في انعقاد قمة ثنائية تجمع خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز والرئيس بشار الأسد في دمشق نفسها وما سيستتبعها من قمم ولقاءات لاحقة.
الاستثمار من كيس الآخرين
بدون مبالغة، دمشق عرفت كيف تلعب على الوقت لفك الحصار والعزلة عنها. استثمرت دمشق كل الأوراق والأضداد لخدمة صبرها وهدفها الكبير في استعادة موقعها، بأقل ما يمكن من التنازلات. قدرتها على المقايضة من كيس غيرها بدون رحمة ولا حساب للخسائر طالما أنها من كيس الآخرين، جعلتها تربح. راهنت على علاقاتها مع طهران في مرحلة كان فيها الإيرانيون يفاوضون ويتمنعون ويتهربون على حافة الانزلاق نحو مواجهة عسكرية واسعة.
دعمت المقاومة في جنوب لبنان من دون حساب، وهي تتابع إبقاء الجولان صامتاً صمت أهل الكهف. الجنوب استمر هادراً حتى وقعت حرب عام 2006، والجولان نائم. نشطت في العراق بكل الاتجاهات من دعم المقاومة في مرحلة اختلطت فيه بالإرهاب ونشاط القاعدة، الى بناء علاقات مهمة مع العشائر العراقية التي تشكل عقدة الوصل والقطع في البناء الاجتماعي العراقي، وصولاً الى العلاقات مع القوى المذهبية وحتى الحزبية البعثية القديمة. بهذا استثمرت الضد وضده ببراعة وضعتها مرات في قفص الاتهام الأميركي من دون إدانتها ومعاقبتها مباشرة لغياب الأدلة والإثباتات. أما في الملف الفلسطيني فحدّث ولا حرج. عندها يقيم خالد مشعل ويتحرك مع باقي قادة فصائل المعارضة، وفيها تجري لقاءات قمة بين الرئيسين الأسد ومحمود عباس.
يبقى لبنان، الملف الأبرز الذي نجحت دمشق أخذ أعلى علامات حسن السلوك فيه بعد سنوات الحزن والغضب وما بينهما من إدارة لمواجهة مكشوفة. هذه العلاقة المعقدة تشكل إيران فيها واسطة العقد. لا شك أن الانتخابات التشريعية التي فازت بها قوى 14 آذار تأتي في هذا السياق، فإيران كما يقول مصدر ديبلوماسي إيراني متابع للملف اللبناني كانت تتمنى فوز قوى 8 آذار، لكن هذا الفوز لم يحصل لأن دمشق اكتفت بلعب دور محدود، وهي لم تقدم شيئاً للمعارضة رغم فوز شخصيات مقرّبة منها. أما لماذا لم تتدخل دمشق فإن المصدر نفسه يرى أن دمشق لم تشأ التدخل نظراً لتفاهمها مع السعودية من جهة، ولأنها من جهة أخرى أرادت الوفاء بالتزاماتها والإثبات للخارج أنها لا تتدخل في الشؤون اللبنانية.
التمايز بين طهران ودمشق في هذه القراءة لنتائج الانتخابات التشريعية، تؤكد أن العلاقة الزوجية الشرعية بينهما، تشهد مناكفات حقيقية يحصرها المصدر نفسه في الجانب التكتيكي الذي لا يطال الأمور الاستراتيجية التي تتعدد فيها الخطوط الحمراء التي لا تُمس ومنها المقاومة.
الوعي الإيراني لطبيعة العلاقة مع دمشق واضح جداً، وهو يستوعب بقوة تحرك دمشق بكل الاتجاهات وأبرزها أن لدمشق التزامات مع المجتمع الدولي والعربي عليها الوفاء بها وأن المحور الأساسي لذلك الإثبات لهذا المجتمع أنها لا تتدخل في الشؤون اللبنانية. علماً أن دمشق أبقت لنفسها ما يعرف بربط نزاع مع الشؤون اللبنانية، عبر قوى الثامن من آذار التي ستبقى الحاضرة الدائمة بها وغيرها، يمكنها أن تشد الحبل وأن ترخيه، وأن تجعل دورها مطلوباً ومرغوباً من المجتمعين الدولي والعربي في كل مرة تتعقد فيها الأمور. وهذا التدخل يكون مرفقاً دائماً بجائزة ترضية جديدة لشكرها على جهودها الايجابية.
انشغال طهران بأزمتها
هل يعني كل ذلك أن دمشق قادرة وأن الآخرين، خصوصاً الدول العربية وعلى رأسها الرياض والقاهرة، عاجزون عن اللحاق بالمهارة الدمشقية في اللعب على كل شيء وأولها وأهمها علاقتها مع طهران؟
الواقع، كما ترى مصادر مطلعة على مسار ملف العلاقات الدمشقية ـ الدولية ـ العربية، أن عواصم القرار الدولية والعربية، سلمت بعدم نجاح محاولاتها في إحداث الطلاق بيه طهران ودمشق، ليس لأن العلاقة الزوجية بينهما استثنائية في أسبابها وأهدافها، ولكن لأن حسابات الربح والخسارة من الجانبين تفرض عليهما المحافظة على هذه العلاقة، فهي كانت مثمرة جداً في مرحلة الممانعة وهي ستكون مثمرة أكثر في مرحلة التفاوض.
أمام هذا الواقع ما هو البديل؟
يمكن القول بشكل موجز، إنه بدلاً من الحصار والعزل وحتى التهديد بالمواجهة، فإن اللجوء الى ما يكن تسميته بالحرب الناعمة ممكن جداً. هذه الحرب تقوم على العمل لاستعادة دمشق الى البيت العربي من دون الطلب منها الانفصال عن طهران. باختصار، المعادلة تقوم على عودة دمشق إلى سياسة الأسد ـ الأب، أي علاقات طيبة مع الأهل والزوج.. لقد نجح الرئيس الراحل حافظ الأسد في إقامة علاقات مع طهران أثبتت ثلاثة عقود متواصلة من الأحداث والخضات والحروب أنها بُنيت على قواعد ثابتة ومتينة، وفي الوقت نفسه كانت للأسد ـ الأب أفضل العلاقات وأكثرها قوة ونجاحاً واستثماراً في كل المجالات مع الأهل. الأسد ـ الأب جعل من دمشق جسراً للتواصل، وليس جداراً فاصلاً يفرض الانحياز الكامل. فلماذا لا ينهل الأسد ـ الابن من منابع أبيه؟
هذا العرض يبدو أن دمشق أصبحت مستعدة لتقبله والتعامل معه بإيجابية، لأنها لن تخسر طهران ـ إلا ربما في مجال محدود ـ وهي ستكسب الأهل وعطف وتقدير القوى القادرة في العالم، ما يشجع دمشق على ذلك ـ ودائماً ضمن حسابات الربح والخسارة من كيس الآخرين ـ أن انشغال طهران بأزمتها الداخلية وارتداداتها سيكون لفترة طويلة ولو كان هذا الانشغال بعيداً عن الأنظار، لأنه سيكون داخل الجدران الحاضنة لمراكز القرار سواء المدنية منها أو الدينية.
أثناء انشغال طهران تستطيع دمشق أن تلعب في هذا الوقت الضائع حتى اكتمال عقد الحوار والمفاوضات لتحقق لنفسها مكاسب إضافية سواء في بغداد أو لبنان، وبطبيعة الحال مع عواصم القرار العربية وأبرزها الرياض والقاهرة.
نعم دمشق تربح بهذا التحول، لكن أيضاً البيت العربي يربح أيضاً. لا يمكن بعد خطاب الرئيس باراك أوباما في القاهرة والانسحاب العسكري من المدن العراقية التعامل مع الوضع وكأن شيئاً لم يحدث. العجز العربي أدمى العرب طوال المرحلة الماضية. من الضروري والواجب الآن استعادة صحته والكثير من عافيته، حتى لا تقع مسؤولية الفشل الأوبامي إذا حصل عليهم بدلاً من أن تكون على الثنائي الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وافيغدور ليبرمان.
يبقى أن جائزة لبنان من كل ذلك، هي كما ترى طهران الاتجاه نحو التهدئة التامة، رغم بعض الأحداث الني تبقى محصورة في مجال الحرتقات وليس المواجهة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.