الجمهورية الاسلامية في ايران، في أزمة. وهي وقعت في أدق وأصعب الأوقات. الخروج من الأزمة بأقل خسائر ممكنة، أصبح ملحاً أكثر من أي وقت مضى. كل يوم يمضي دون حل، ترتفع تكلفته، وتزداد مصاعب صياغته. هذا الوعي بخطورة الوضع هو الذي أنتج عودة الرقم الصعب في الثورة والدولة الشيخ هاشمي رفسنجاني الى المسرح الأمامي، مؤكداً مرة أخرى أنه رجل الدولة في الثورة ورجل الثورة في الدولة.
اختيار رفسنجاني خطبة الجمعة لإعلان مواقفه مما جرى، ومما يجب أن يجري مستقبلاً لإخراج البلاد من الأزمة، اختيار مدروس لخبير محنّك بكل مفاصل السياسة الايرانية. جاء رفسنجاني بعد أن اتفق مع المرشد آية الله علي خامنئي على الصيغة والموقف، الذي كان قد غضّ النظر عن محاولة أحمدي نجاد اغتياله سياسياً خلال الحملة الانتخابية. بهذه الاطلالة استعاد رفسنجاني كرامته السياسية التي أهدرت، فجاء رد الاعتبار إليه رسمياً وشعبياً.
من الشرخ الى خط الزلازل
أيضاً جاء رفسنجاني الى خطبة الجمعة التي تنعقد في جامعة طهران منذ بداية الثورة، ومن ترويكا قيادة المعارضة: الرئيس السابق محمد خاتمي والمرشحان للرئاسة مير حسين موسوي والشيخ مهدي كروبي. بذلك ثبت شرعية هذه القيادة وقانونيتها. بعد أن كادت الأجهزة الرسمية تخونها ليسهل بذلك الإجهاز عليها. ترويكا المعارضة أكدت شجاعتها، ورفسنجاني خطا نحوها وبها خطوة ضرورية لتأكيد قدرته على فرض مواقفه.
خطبة رفسنجاني جاءت على مستوى الحدث، أمسك في بداية خطبته العصا من وسطها كما اعتاد، فطلب من الجميع أي الموالاة والمعارضة العمل تحت الدستور وفي ظلال القانون، خصوصاً ان المرحلة التي تلت اعلان نتائج الانتخابات مريرة. بهذا فتح الباب مواربة أمام وضع ولاية الفقيه تحت الدستور وليس فوقه. بعد ذلك عرض حزمة الحل التي يقترحها على الشعب بعد أن قدّمها الى أعضاء المجلسين اللذين يرأسهما وهما: مجلس تشخيص مصلحة النظام وهو يعني من خلال صلاحياته ودوره مباشرة الرئيس أحمدي نجاد. ومجلس الخبراء الذي يعني مباشرة مرشد الثورة آية الله علي خامنئي، خصوصاً ان هذا المجلس هو الذي ينتخب المرشد وله الحق بإقالته اذا رأى ذلك ضرورياً.
هذه الحزمة مهمة جداً. واذا ما استخدمت مفاتيح الترميز الايرانية وأداء رجال الدين، فإنها تؤكد موقفاً معارضاً متشدداً لهاشمي رفسنجاني. لا بل ان بعض النقاط المطروحة تشكل ادانة صريحة للسلطة التي يترأسها أحمدي نجاد والعاملة تحت عباءة المرشد خامنئي. من مطالب هذه الحزمة:
*اعادة بناء ثقة الشعب التي تضررت الى حد ما. هذا المطلب يؤكد وجود شرخ حقيقي داخل المجتمع الايراني. وهو شرخ ان لم تتم معالجته بسرعة كما ترى أوساط ايرانية عديدة سينقل ايران كلها الى خط زلازل سياسي يهدد الثورة والدولة معاً في المستقبل.
*اطلاق سراح المعتقلين ونشر التسامح وتحمل الرأي الآخر والتعويض على المتضررين. الادانة واضحة أيضاً للسلطة التنفيذية. مجرد المطالبة بالتعويض واطلاق سراح المعتقلين يعني ان كل ما جرى كان مخالفاً للقانون وظالماً للناس، وهذه اتهامات خطيرة للنظام خصوصاً انه اعتبر ان من اعتقلوا أو قتلوا انما كانوا يتحركون بأوامر من الخارج.
*اجراء المناظرات الحرة على التلفزيون بهذا يثأر رفسنجاني لنفسه بعد أن منع من الرد على نجاد بعد الاتهامات التي وجهها له ولعائلته بما يتعلق بالاثراء غير المشروع واستغلال النفوذ، وأهمية المناظرات انها تدخل كل بيت في ايران، فلا يهمني الخطاب الاحادي لنجاد وأنصاره.
*العمل على صون مبادئ الثورة. وفي هذا اتهام خطير للنظام بأن ما جرى في المرحلة المريرة التي تلت الانتخابات قد ضرب هذه المبادئ. لذا عدم المسارعة تعني ضرب الثورة. بهذا يتم قلب المعادلة. ففي حين اتهم نجاد وانصاره من المحافظين المتشددين أن المتظاهرين والمعارضة يعملون على ضرب الثورة فان رفسنجاني يرمي كرة الاتهام الى ملعب نجاد والمحافظين.
توازن القوى
هذه الخطبة ستنقل المناقشات والمداولات من الشارع الى داخل ايران العميقة، حيث تصنع القرارات، لكن المناقشات والمداولات ستظهر اصداؤها بسرعة في مبادرات علنية وحتى احيانا شعبية في الشوارع، لكي تشكل كلها جرس انذار حقيقيا بأن لا احد مستعداً للانتظار طويلا. لكل شيء وقته. والحل يجب ان يكون ضمن فترة محدودة، خصوصا ان الخارج يضغط ايضا وبشكل متواز على الداخل. مهلة المئة يوم التي حددها الرئيس باراك اوباما للرد على عرضه بالحوار، تشكل عاملا ضاغطا للاسراع، على مراكز القرار، الاتفاق او الاختلاف، ولا شك ان خطبة التنصيب الرسمية لاحمدي نجاد في الثاني من آب ستشكل موعدا جديا لمعرفة الى اين تسير ايران.
المشكلة الكبيرة حاليا، ان نوعا من التوازن في القوى يحكم الساحة في ايران، خطبة رفسنجاني تؤكد ذلك. الاصلاحيون تزداد قوتهم لكن بما لا يكفي للحسم وتحقيق انتصار واضح، والمحافظون يضعفون يوما بعد يوم لكن ايضا بما لا يكفي لالحاق الهزيمة بهم. هذا التكافؤ في التقدم والتراجع يخلق نوعا من الستاتيكو، ستعمل مراكز القرار على بلورة للحل او القطيعة بكل ما يعني ذلك من مخاطر مصيرية على الجمهورية الاسلامية.
هذه الوقفة في وسط شرخ شعبي وسياسي، يمكن ان تتحول في كل لحظة الى خط زلازل، يدفع للتساؤل عما ستفعله القيادة الايرانية في هذه الفترة القصيرة التي قد لا تزيد عن مئة يوم في مواجهة الداخل والخارج معاً؟
داخلياً، السؤال الكبير هو هل سمعت هذه القيادة رسالة رفسنجاني، وهل ستعمل بمقتضاها اي الانفتاح بعد التسامح، فتطلق سراح سجناء الرأي والمواقف، وتنسحب من مستنقع التخوين والعمالة، اكثر من ذلك هل ستعمد السلطات الى فهم رسالة الشباب الذين يشكلون سبعين بالمئة من الشعب الايراني فتنفتح عليهم وعلى مطالبهم التي اقل ما يقال فيها انها عادية جدا في القرن الواحد والعشرين، ام انها ستغرق في المستنقع فتدفن كل الحلول مستقبلاً حتى ولو جرى اي اتفاق على مستوى القمة.
خارجياً، هل يكون احمدي نجاد الثاني مختلفا عن احمدي نجاد الاول فيتخلى عن خطابه الشعبوي، مؤكدا بذلك بأنه ادرك ان المرحلة الاوبامية مختلفة جدا عن المرحلة البوشية؟ وهل سيعمد الى اعادة جسور الثقة مع محيطه الجغرافي وتحديدا العربي، فيوجه رسائل ميدانية وليس خطابية، بأنه يريد فعلا التفاهم والوفاق معهم، ان لم يكن ذلك واجباً جغرافياً وسياسياً، فعلى الاقل لكي لا يجد نفسه عارياً في المستقبل امام القوى الغربية
ربما الموقف الذي اعلنه رسمياً السفير الايراني في لبنان محمد رضا شيباني وخلاصته تشجيع التوافق اللبناني واعتبار اختيار سعد الحريري لتشكيل الحكومة بأنه خيار جيد وابداء الاستعداد لوضع كل الثقل الايراني للمساعدة في انجاح مهمة رئيس الحكومة المكلف، خطوة على مسار مفتوح على كل العرب.
لبنان كان ومازال مختبراً حقيقياً لكل الرسائل. النجاح في لبنان اولاً يفتح الباب امام الجمهورية الاسلامية في ايران نحو تثبيت وتأكيد سياستها هذه باتجاه محيطها الجغرافي والعربي.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.