عودة تركيا الى الشرق، هي استعادة قلبها لعقلها. طوال عقود، كان العقل التركي مشدوداً الى أوروبا، رغم تمدد الجسد التركي على طول الشرق. لن تطلّق تركيا الغرب وتحديداً أوروبا، طلباً للزواج مع الشرق، من الواضح أن الزواج الجديد الذي نجح في عقده الثنائي داوود أوغلو ورجب طيب أردوغان، يمنح تركيا حجماً ضخماً وواسعاً يتجاوز مساحتها الجغرافية، ودوراً فاعلاً ومؤثراً في منطقة معقدة بالمشاكل التي يرغب الجميع الدخول عليها لأخذ دور له في صناعة التاريخ. النتيجة المعروفة حتى الآن، أن النجاح كان نادراً في تحقيق هذا الإنجاز.
زواج العقل مع القلب التركي
أحمد داوود أوغلو وزير خارجية تركيا، من صناع السياسة الخارجية لبلاده وليس مجرد ممثل لسياستها. لذلك فإن زيارته للبنان مهمة خصوصاً وأنها حلقة من سلسلة طويلة ضمن خريطة طرق مرسومة على المدى القصير بانتظار اكتمالها على المدى الطويل.
لم تهجم تركيا طلباً للزواج من المنطقة. تقدمت خطوة خطوة، أخذت في الاعتبار المشاعر والمواقف، مستندة في ذلك الى الشراكة القلبية في التعامل مع الأحداث. دمشق شكلت أمامها البوابة الجغرافية التي دخلت عبرها. الجغرافيا المشتركة وقضايا عديدة مصيرية منها المسألة الكردية دفعت باتجاه تعزيزها. دمشق التي لم تعتد الدفع من كيسها دفعت بسخاء لأنقرة، حتى تكسب ثقتها. ونجحت في هذا الامتحان.
اعتمدت تركيا الجديدة سياسة الخطوة خطوة في العبور من الحدود السورية وصولاً الى إيران بعملية التفافية طويلة. لم تشأ أن تدخل من الحدود الإيرانية الى المنطقة حتى لا تبدو وكأنها تطلب إذناً أو تصريحاً للعبور. ما عزز هذا النهج التركي، أن حجمها موازٍ لإيران تاريخياً. لا مجال للتعامل من تحت أو من فوق. التاريخ المشترك بينهما وضع قواعد محددة للتعامل بينها.
زيارة أوغلو للبنان تُقرأ نهجاً وأهدافاً من تصريحاته. تركيا تريد أن تكون سياستها فاعلة في المنطقة ولكن أيضاً لها، وهو أمر طبيعي جداً. السياسة التركية تنطلق من أنها قوة اقليمية كبيرة تعمل على إعادة تموضعها للتوازن مع الخارج وتحديداً أوروبا. أهم ما في العناوين التي أصدرها الوزير التركي، دعم أنقرة لكل التطورات الديموقراطية التي تحصل في لبنان. في هذا الدعم يبدو أوغلو صادقاً، لأن دعمه يأتي من تعلق مصيري بالديموقراطية في بلاده. إنه ليس دعماً لإخفاء مآسي حكم عسكري أو ديكتاتوري، كما يحصل في حالات كثيرة.
أيضاً، وهو يشكل خطوة إضافية مهمة من المسار الجديد الذي أخذ العالم وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية ينظر من خلاله الى لبنان، إن استقرار منطقة الشرق الأوسط من استقرار لبنان. لبنان المحصور في زوايا الأعاصير والاختيارات لم يعد سياسة، أصبح حالة مرفوضة. لذلك العمل على تثبيت السلم الأهلي مهم جداً.
كبقية تثبيت هذا السلم، يبدو أيضاً مهمة عاجلة لتركيا. تعرف أنقرة أنها قادرة على لعب هذا الدور، والأرجح انها تلعبه جيداً مع سوريا. العلاقات المميزة مع دمشق من جهة والعلاقات المنفتحة والقوية مع بيروت تؤهلها للنجاح. لا يمكن لدمشق مهما كان مشهوداً لها بالشطارة أن تلعب مع التركي لأنها تعرف جيداً انها ليست أمام صديق صدقها ولا يصدّقها.
تركيا لا تكتفي بنقل الرسائل
لا شك أن هذا الانشداد القوي نحو تثبت السلم الأهلي في لبنان له خلفية تركية مباشرة. الجنود الأتراك العاملون في قوة اليونيفيل في الجنوب يشكلون هماً تركياً أساسياً لذلك فإن السلطات التركية يهمها دائماً معرفة وضع جنودها تأكيداً منها لسلامتهم. هؤلاء الجنود وإن كانوا في مهمة أممية، إلا أنهم ساهموا ويساهمون في عملية استطلاع ميدانية لدورها في لبنان ومنه باتجاه المنطقة.
هذه السياسة مدعمة بمفاعيل وإنجازات على الأرض من الجنوب الى الشمال، أمر مثير أن يسمع اللبنانيون أن تركيا أنجزت بناء 38 مدرسة، وأنها تنوي إنجاز 15 مدرسة، وساهمت في عملية بناء البنى التحتية. لقد ساهمت تركيا بهذه المشاريع وغيرها من دون ضجيج إعلامي، ما يدل على ثقة القوة المؤثرة بنفسها.
تركيا لا تُخفي مطلقاً بأنها تريد أن تلعب دوراً أساسياً على مسار حل النزاع العربي ـ الإسرائيلي. وهي دخلت على المسار السوري ـ الإسرائيلي ونجحت في تحقيق إنجازات حقيقية لولا العدوان الإسرائيلي على غزة. كانت المحادثات السورية ـ الإسرائيلية قد خطت خطوة كبيرة نحو الإنجازات.
تركيا وهي تلعب هذا الدور، لا تكتفي بنقل الرسائل. للأتراك مشاعرهم ومواقفهم، لذلك كان الموقف التركي من العدوان الإسرائيلي على غزة حاداً وصلباً. الأتراك يعرفون جيداً قيمة المشاعر الشرقية الحارة ولذلك يؤسسون عليها. ألم يرفضوا المشاركة أو حتى دعم الغزو الأميركي للعراق؟ بهذا الموقف أخذوا في حساباتهم الحساسيات التاريخية ليعيدوا كتابة التاريخ بشفافية.
هدف تركيا واضح جداً.. العمل على إقرار السلام الشامل في المنطقة، وهي تأمل بالدخول على المسار اللبناني ـ الإسرائيلي عاجلاً أو آجلاً. أنقرة تعمل وكأن المحادثات ستبدأ اليوم وليس غداً وفي الوقت نفسه تعرف أن ذلك صعب جداً. عندما يُقرع الجرس ستكون أنقرة حاضرة وجاهزة ومستعدة لكل الاحتمالات.
دور الوسيط الذي تلعبه تركيا على مختلف المسارات، ينطلق من قاعدة ملتزمة وهي أن مصاعب الاخوة في لبنان وفلسطين والعراق هي مصاعبنا.
معنى ذلك أن أنقرة لا تعمل على استثمار العذابات. طلباً من المعذبين التدخل لقبض الثمن غالياً. لا تتدخل لخلق الدور. تريد الثمن من الخارج، تحديداً من واشنطن والاتحاد الأوروبي.
الوسيط التركي ضمن هذه القواعد والقناعات هو وسيط فاعل وبنّاء. إنه قوة مساندة وليس قوة مزاحمة تخلق الحساسيات والإشكالات. نجاح تركيا هو في أنها قوة تدعم الاستقرار ضمن قواعد المجتمع الدولي المعروفة وليست قوة تفاوض لكسب مواقع اقليمية على حساب الآخرين.
تحرك تركيا ضمن هذه القواعد وتحت هذا السقف يعني أن دورها مطلوب ونجاحها مضمون.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.