القادمون من دمشق ينقلون أن الملف اللبناني، ملف أميركي سوري بحت، لا شركاء فيه. يكمل هؤلاء بفخر واعتزاز، أن دمشق مرتاحة جداً الى هذا التحول العميق. وأن واشنطن أدركت أخيراً أن صاحبة القرار الاقليمي في هذه الملف هي دمشق. لذا فإن محاولة استبعادها أو تجاهل موقعها يزيد الأوضاع تعقيداً. وإذا كانت واشنطن ليست بحاجة الى وكالة لمعالجة أي ملف في العالم، فإن التسليم لدمشق بهذه الوكالة جاء بعد سنوات عديدة من التمنع والممانعة والمنافسة والرفض. كل تلك المحاولات فشلت. التطورات أثبتت استحالة إبعاد دمشق، لكن ماذا عن طهران أليس لها أي دور أو موقع في القرار؟. هنا يقول هؤلاء القادمون إن طهران هي التي سلمت القرار لدمشق لأنها تثق بها وباختياراتها، وإن كل التجارب الماضية أكدت أن لدمشق ثوابت لا تخرج عنها، وأنها تلتزم حرفياً بكل الاتفاقات والتفاهمات. تجارب ثلاثين سنة من العلاقات التي صيغ بعضها في أدق الظروف وأخطر المراحل، أكدت ذلك. حتى ولو حصلت بعض الثغرات والمطبات على طول هذا المسار، فإنه أمكن تجاوزها لأنها كانت استثناءً وليست قاعدة، وطارئة وليست طبيعية.
الإعلان والرسائل
هذا الإعلان الدمشقي، بمثابة رسالة الى اللبنانيين والأطراف العربية والاقليمية، بأنّ الحوار حول كل ما يتعلق بلبنان يدور بين واشنطن ودمشق. العواصم الأخرى تتحرك خارج دائرة الفعل. مهما بلغت درجة المبالغة في هذه الصورة الوردية لدمشق القوية، فإن ثغرة صغيرة تكاد تكون مثل الشُعر في الزجاج قد لا يكون مرئياً ولكنه موجود يؤكد بطريقة أو بأخرى أن دمشق تتحمل وحدها مع واشنطن مسؤولية ما يقع من أحداث سواء كانت ايجابية أو سلبية.
ولذلك فإن مساءلتها ولو إعلامياً عن المعوقات والمطبات والهزات في لبنان مشروعة. وإدخالها في قفص الاتهام من وقت الى آخر أمام الشريك الأميركي الذي يطيب له أن يلعب دور المدعي العام عندما يرى الوقت مناسباً له، لا يكون تحريضاً عليه وإنما تظهيراً واقعياً لما يحصل.
المطلعون والذين هم على تماس مع المواقف الأميركية يرون غير ذلك، ويقدمون صورة رمادية للعلاقات الأميركية السورية، وتحديداً في ما يتعلق بالملف اللبناني. ينطلق هؤلاء من الفشل الواضح العلني، وإن كان غير رسمي، للمحادثات الأميركية السورية التي جرت في دمشق في الشهر الماضي. الفشل ظهر أساساً في عدم التوصل الى أي نتيجة حول كل الملفات خصوصاً العراق. لكن الفشل لم يقفل الأبواب، ومحاولات أخرى ستجري.
المحادثات جرت كما هو معروف بين وفد أميركي ترأسه فريدريك هوف مساعد المبعوث الأميركي الخاص لعملية السلام في منطقة الشرق الأوسط ووفد عسكري أمني ضمّ الجنرال مولر قائد القيادة المركزية وستة مسؤولين عسكريين وأمنيين من البنتاغون والمخابرات المركزية. عنوان المباحثات كان بحث سبل تعزيز الأمن الاقليمي في منطقة الشرق الأوسط.
السبب الرئيسي لـالفشل يعود كما تقول هذه الأوساط الى أن الرئيس بشار الأسد أدار المباحثات، عبر الوفد الذي ترأسه وليد المعلم وزير الخارجية السوري، على طريقة والده الراحل الرئيس حافظ الأسد. الأساس في المباحثات المطالب الآتية:
[ ضرورة الانسحاب الإسرائيلي من الجولان حتى خط الرابع من حزيران 1967.
[ التأكيد على تشريع الدور السوري التقليدي في المنطقة.
[ حق الإشراف والتحكم بالملف اللبناني.
[ تسليم اللبنانيين (خصوصاً الحكومة اللبنانية) بأن لا يفاوضوا إسرائيل بمعزل عنه أي أنه إذا لم يكن من عودة لوحدة المسارين فعلى الأقل أن لا يحصل شيء من دون معرفة واطلاع وموافقة دمشق على أي توجه وقرار.
[ استمرارية العلاقات مع طهران على ما هي عليه.
[ موقع دمشق من صياغة الحالة العراقية بعد الانسحاب الأميركي النهائي في مطلع العام 2011.
قناعات أميركية غير رسمية
واضح جداًً من كل ذلك أن دمشق تصرفت مع الأميركي وكأنها قوة اقليمية بمعزل عن إيران والمفاوضات معها، معتمدة في كل ذلك على موقعها من ملف علاقاتها مع حركة حماس في فلسطين وحزب الله في لبنان والبعث والعشائر والقوى الشيعية في العراق.
بعض المطلعين على مسارات الموقف الأميركي يقولون ولا يؤكدون، لأن الأمر يحتاج الى اثباتات من أطراف محايدة أو مطلعة جداً بانتظار انكشاف المستور من المواقف الأميركية المعلنة.
إن واشنطن مستاءة جداً من تعاون دمشق مع كوريا الشمالية، وإن قصف المبنى المفترض أنه موقع نووي في دير الزور كان رسالة أميركية عبر إسرائيل بأن هذا التعاون محرم وليس فقط ممنوعاً. ولذلك فإن واشنطن تتابع عن كثب مواقف دمشق بعد الرسالة الميدانية من تعاونها مع كوريا الشمالية وبكل ما يتعلق بالملف النووي.
إن قناعة غير رسمية وتحديداً في مراكز الأبحاث الأميركية المؤثرة، التي لم تنتج حتى الآن تحولاً داخل دوائر القرار في الخارجية الأميركية تحديداً، تشير الى ما تسميه نوعاً من التفاهم الضمني مع تنظيمات من الأصوليين الإسلاميين، بتحييد سوريا عن دعاويها ونشاطاتها سواء المتعلقة بالنظام أو بالأرض السورية، مقابل غض النظر عن الاستخدامات اللوجستية باتجاه العراق. لذلك فإن اتهامات نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي لدمشق بإيواء مسؤولين للإرهاب وتسهيل نشاطاتهم استفز كثيراً المسؤولين السوريين الى درجة وصف الرئيس بشار الأسد هذه الاتهامات بأنها لا أخلاقية.
لقد رأت دمشق في هذه الاتهامات نوعاً من صب الزيت على النار الأميركية الخامدة في أكثر الأوقات حساسية ودقة.
[ واشنطن أكدت لدمشق ـ مما شكل عاملاً إضافياً للتشدد السوري والتوجه نحو الفشل ـ أمرين:
أن لا أولوية للمسار السوري الإسرائيلي في المفاوضات حول السلام. وأن الأولوية للمسار الفلسطيني الإسرائيلي على أن يبقى المساران السوري واللبناني بالتوازي مع المسار الأول ليشكلا حزمة واحدة توضع على الطاولة في مؤتمر دولي.
[ أن أولويّة واشنطن في ما يتعلق بلبنان لم تتغير وهي حماية استقلال لبنان وسيادته. تأكيداً على ذلك فإن الإدارة الأميركية قد تعمد الى إدخال زيارة بيروت في برنامج ميتشل مبعوث الرئيس الأميركي الى الشرق الأوسط، أو على الأقل فريدريك هوف، مما يؤشر الى أن مناقشة الوضع اللبناني والمسار المتعلق بالمفاوضات مع إسرائيل تبقى في بيروت.
[ مهما صحت أو أخطأت التسريبات الواقعية أحياناً والمضخمة أحياناً أخرى، فإن ذلك يؤكد بأن المنطقة كلها على طاولة البحث والصياغة. من الطبيعي في مثل هذه الحالة التي لا تحصل كل يوم خصوصاً بين الدول، أن كل شيء قابل للتفاوض حوله أو عليه، وتقديم التنازلات هنا وهناك المعيار في ذلك حجم وموازين القوى وعلى قاعدة خذ هنا واعطني هناك.
المأساة أن اللبنانيين غائبون، لأنهم غارقون في التنازع على مقعد وزاري في حين أن المطروح هو لبنان حاضراً ومستقبلاً.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.