كل الطرق توصل الى دوما. ودوما للذي سمع بها أو لم يسمع عرفها أو سيتعرف عليها يوماً، قرية ولا كل القرى، متحصنة بالجبل وملتحفة بسماء صافية مثل قلوب أهلها. ربما هي أجمل قرى لبنان، جمالها ليس في غناها، ولا في أهلها، ولا في موقعها فقط، جمالها من خصوصيتها. هي مثال للبنان الذي يريده كل لبناني يريد الدولة ويعمل لإعادة بنائها.
وصلناها، والأخبار والشائعات تسبقنا، بأن السلاح يزحف على المنطقة، الجميع يتسلح. سوق السلاح في أغنى حالاته. عندما عرفناها وتعرفنا عليها، أهلاً وحجارة وقرميداً، تأكدنا كم سوق الشائعات وليس فقط مسارات السلاح ظالمة. محاولة اغتيال منطقة مثل التي تضم دوما، طلقة أخيرة على رأس مشروع الدولة اللبنانية، من يريد ذلك؟
كثيرون. أبرزهم وأقواهم الطائفيون باسم الوحدة الوطنية. الغزاة الجدد على السلطة بصرف النظر عن ماذا يبقى من هذه السلطة غير الشوارع والأزقة اذا سقطت الدولة واضمحلت وضاع حتى مشروع اعادة بنائها حطباً في نار البغض والطمع والاقتتال كما حصل في الحروب الأهلية السابقة.
نادي دوما العربي
عام 1886، ولدت بلدية دوما، وما زالت. ولادة البلدية في ذلك الزمن تؤشر مسبقاً الى انخراط القرية في مسار بناء مؤسسات الحياة المدنية والمدينية. ايضاً أول صيدلية قامت في المنطقة كلها كانت عام 1872. هذه الصيدلية تؤكد انحياز أهلها الى المداواة بالعلم وليس بالأوهام والخزعبلات. كل داء له دواء.
خطوة أخرى على مسارات المدينية. في دوما أثار سينما تعرف باسم سينما فؤاد. يقول الرجال والنساء معاً انهم عبروا المراهقة في ظلامها وأنوارها. للأسف، حضارة الفيديو وعشرات محطات التلفزيون قتلت السينما الوحيدة في المنطقة. لكن أثارها تدل على دخول أهل دوما العصر باكراً، كما حصل في بعلبك عندما كانت مدينة مختلطة يعيش أهلها في محبة وتفاهم وعلى قاعدة لكل دينه والدين لله والوطن للجميع.
حتى البناء في دوما يؤشر الى طبيعة شعبية، تنحو نحو الوحدة والعيش المشترك طبيعياً بعيداً من التعددية المذهبية القائمة داخل المجتمع. التعددية فيها غنى وليست سكيناً تقطع المجتمع وتقسّمه. يؤشر أهل دوما الذين ما زال الرجال يتسامرون وسط السوق بعد أن انتهى موسم المهرجانات، وهو يضعون يدهم على الحجارة القديمة التي تقوم منها وعليها المحال التجارية. يقولون: أنظر هذا الحائط للبناء الطويل الذي يضم أكثر من محل تجاري ليس ملكاً لفرد. كل محل أو أكثر هو لمالك. عند بنائه في مطلع القرن الماضي، كان المالك يتعمد ترك فراغات في نهاية جدار محله لكي يتداخل مع بناء المحل الذي سيبنى بعد فترة وربما بعد سنوات. لذلك لا ترى فرقاً بين محل وآخر. كأنه بناء واحد. يتساءل أحد المثقفين وهو يمضي باتجاه زاوية أخرى من السوق. كانوا يفكرون ببعضهم البعض، فجاءت وحدة البناء طبيعية.
ليس هذا كل شيء في دوما. حدثان يؤكدان هذا التمايز. باعتزاز تقول مجموعة من الرجال: نادي دوما حصل على اجازة علم وخبر رقمها 14. أي انه من أوائل الأندية في لبنان. هذا ليس كل شيء، الأهم ان دوما المسيحية قلباً وقالباً وفي قلب الجبل، أخذت رخصة ناديها باسم: نادي دوما العربي. نعم العربي. أول رئيس انتخب لإدارة النادي كان نقولا خير.هذا الوعي المبكر لشباب دوما بانتمائهم العربي وخروجهم من تحجر الطائفية والتقوقع الجغرافي فالقومي الرافض لمحيطه، يشكل وحده شهادة بخصوصية دوما.
الحدث الثاني، يؤشر مبكراً الى الوعي الجماعي وبالتالي المبادرة الجماعية عام 1951، اجتمع شباب من دوما اتفقوا على أن قرية مثل دوما، يجب ألا تبقى مركز تقاطع طرق لكل القادمين من طرابلس وجبيل وباتجاه البقاع وسوريا، يجب أن يبقى العابرون فيها بعيداً من عادات الضيافة الغنية. أنشأوا شركة مساهمة، جمعوا المال، وبنوا فندق دوما الحالي والمشرف على دوما. بقي الفندق عملاً جماعياً فريداً من نوعه في لبنان. حتى جاءت الحرب عام 75 فاضطروا للتسليم باستحالة استمرار ادارة الفندق جماعياً، في وقت فرّقت بينهم الحرب، باعوه لأحد المساهمين فحافظ عليه حتى الآن. يقول بعض الأهالي، ان هجمة من رأسمال المال السياسي تريد قنص هذا الفندق لتحقيق اختراق له فشل بالقيام به في الانتخابات الماضية، يعمل أهل دوما لمنع ذلك، لأنهم يريدون الحفاظ على فرادة هذا الفندق وذكراه الجماعية. حتى الفندق يبنى بسواعد الجماعة فكيف بالوطن؟!.
السنديانة الجامعة
في دوما كنائس قديمة من قدمها ومتعددة بتعددية المذاهب فيها. لكن أجملها هي الأكثر تواضعاً، دير مار نهرا، ليس أكثر من غرفة من الحجر. وجرس صغير معلق فوق الباب الخشبي الصغير ايضاً. في وسط باحة هذا الدير طاولتان من الحجر الصافي المقتلع من المنطقة. لكن أجمل ما فيه سنديانة ضخمة يزيد عمرها على مئة عام. تحت هذه السنديانة يقيم أهل دوما أحلى لقاءاتهم خصوصاً أثناء مهرجان الصيف. هذا العام وقبله جاء الشاعر طلال حيدر وأنشد العديد من قصائده. أضاء الشباب حول السنديانة بالشموع، وزاد طلال حيدر بشعره وبالشروقي الذي ألقاه، نجوم السماء نجوماً. في دوما، الكنيسة دار مفتوحة على الثقافة والفرح.
قبل أن نغادر دوما، استقبلتنا سيدة كريمة من آل صوايا في منزلها. المنزل شيد عام 1904 وما زال قائماً مع الاهتمام والعناية. كما كان. هذا المنزل مثال لمنازل دوما بجمالها وغناها وتواضعها. البناء شيّد بجمالية العقود. تدخله، كل المنزل مفتوح بعضه على بعضه الآخر. كل عقد يضم غرفة. لا خصوصية للحاضرين، أينما جلست يسمعك الآخرون. لا مكان للانغلاق والنميمة. من جديد الوحدة من قلب التعددية.
ونحن نطل من سقف دوما الجبلي، شاهدنا دوما بقرميد منازلها مثل القلب المفتوح لكن المحصن في صدر من الجبال الحصينة. ومن فوق تطل طرابلس الممدة على البحر. ايضاً تبدو الطرقات الجبلية القديمة التي تمر بدوما الى أطراف لبنان ساكنة.
قبل أن نترك دوما قال لنا الطبيب بسام حداد الذي اختار العودة من فرنسا ليعيش في لبنان ودوما بعض شعره وطموحه ليبقى أولاده في لبنان الذي أحبه:
تاننسى اللي جرى وكان
وتنعيش بخير وأمان
يا بطرس سمي علي
ويا محمد سمي سمعان
ومهما كان نوع الأديان
في كل اللمى لبنان
بعاشورا دقوا الاجراس
وبالميلاد علوا الآذان
بسام حداد يروي ايضاً ونحن أمام مخفر الدرك المجاور للسجن الصغير وهو يحضن ابنه الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره، انه وهو بعمر ابنه طلب منه آمر المخفر شراء حلو له من السوق، لمعرفته بوالده. اشترى بسام الحلو على الطريق، اقتطع لنفسه لقمة. عرف والده، فطلب من آمر المخفر أن يسجنه لساعة بدلاً من أن يؤدّبه. أراد الأب أن يعرف ابنه ان العقاب يكون أيضاً فعل مؤسسة للدولة. الايمان بالدولة واحترامها يبدأ من البيت أولاً.
كل الطرق توصل الى دوما.. للدولة طريق واحدة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.