الصورة وحدها ستبقى من القمة الثلاثية في نيويورك للرئيس الأميركي باراك اوباما والرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. الثلاثة كانوا متأكدين قبل اجتماعهم، انه اجتماع بلا نتائج. لكن الثلاثة كانوا مضطرين للاجتماع. اوباما ليقول للأميركيين انه يتحرك ويصيغ آلية للتنفيذ. عباس ليقول لكل الذين ضغطوا عليه من الأميركيين والعرب: لقد فعلت ما تريدون والنتيجة صفر أو أقل من صفر كما قلت لكم. نتنياهو ليقول للإسرائيليين: لم أتراجع ولو قيد أنملة عن مواقفي، لبّيت الدعوة، وقلت لهما وللعالم انني على مواقفي. أصوات الإسرائيليين هي الأهم بالنسبة لي.
لماذا الصورة
الرئيس الفلسطيني عباس بقي على موقفه، وهو ضرورة وقف الاستيطان في الضفة الغربية قبل أي مفاوضات. لماذا إذاً ذهب إلى نيويورك وهل كان ذلك ضرورياً؟ مواقف ثلاثة للفلسطينيين تتناوب على هذا الموقف وهذا الوضع:
الأول، ينطلق من ملاحقة دائمة ليوميات العمل الفلسطيني نضالاً سياسياً ومسلحاً، قبل أبو مازن ومعه. يقول أصحاب هذا الرأي: صحيح ان أبو مازن تعرض لضغوط مزدوجة أميركية ومباشرة من البيت الأبيض ومن بعض القيادات العربية خصوصاً مَن منها على تماس مباشر مع القضية الفلسطينية، لكن كان باستطاعة أبو مازن أن يقول لا لن اذهب لأنه ليس لديّ ما أقدمه أو أتنازل عنه بعد كل ما قدمته وتنازلت عنه. لكن المشكلة ان أبو مازن لا يتحمّل الضغوط مثل الرئيس الشهيد ياسر عرفات. كان أبو عمار يعرف كيف يدوّر الزوايا بسرعة وحنكة مع الاستمرار في تصلبه، كان يؤشر خفية لرجاله للقيام بعملية ضد الجيش الإسرائيلي وهو يصرخ عالياً إنتو بتغدروا بيّ ليه ليُسمِعَ الإسرائيليين ما يحبون أن يسمعوه. طبعاً في النهاية كلّفه صموده وصلابته حياته. لكن يبقى هذا قدر القادة التاريخيين.
الثاني، وهم المطبّلون الذين يقولون لأبو مازن ما يحب أن يسمعه، لا ما يجب أن يسمعه، ليحتلوا مواقع لا يستحقونها. هؤلاء شجعوا أبو مازن على المسارعة لعقد القمة، يكفي منها اللقاء مباشرة مع اوباما وعرض الموقف الفلسطيني بحضور نتنياهو. أوباما سيكون شاهداً مهماً خصوصاً وأنه في مرحلة صياغة قراره النهائي في كيفية التعامل مع القضية الفلسطينية.
الثالث، وهو البراغماتي، يرى ان اوباما الذي يعمل على وضع خريطة طريق لحل النزاع العربي الإسرائيلي وفي قلبه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، من الطبيعي أن يلبيه أبو مازن، وأن يشجعه على العمل على الحل بدلاً من الاكتفاء بإدارة الوضع.
من الصعب جداً مساءلة أبو مازن في موقفه لأن لكل موقف حججه واثباتاته. المركز في هذا الوضع هو قوة الإسرائيليين وشراستهم في تنفيذ ما يريدون، وضعف العرب وتراجعهم يوماً بعد يوم عما يريدون.
بنيامين نتنياهو يريد أن يبقى في السلطة، وهو باق لسنوات أربع أو أقل، ويعمل للتجديد لنفسه ولليمين المتطرف معه لسنوات قادمة. لذلك فإن نتنياهو ومعه ليبرمان، مستعد لتنفيذ كل ما يمكّنه من الاستمرار والتجديد. ناخبه هو اليمين المتطرف وهو سيعمل على ارضائه خصوصاً في ميدان الاستيطان وتوسيعه. حالياً يجري العمل على 1500 وحدة سكنية وتوجد 3500 وحدة قيد التلزيم، وهذا كله يقتضي أكثر من ثلاث سنوات. كل افتتاح لمجموعة من الوحدات السكنية تضمن له ولحلفائه مزيداً من الأصوات في صناديق الاقتراع في الانتخابات القادمة.
لعبة قديمة ـ جديدة
أيضاً، عرف نتنياهو كيف يلعب في الوقت الضائع. بدلاً من استمرار العمل بالقاعدة المعروفة الأرض مقابل السلام، أصبحت المحادثات والقمم تدور اليوم حول وقف الاستيطان والاعتراف بيهودية دولة اسرائيل مقابل التطبيع العربي مع اسرائيل. المؤلم في ذلك ان أسلوب اسرائيل طوى صفحة الماضي من المفاوضات، والبدء من جديد مع قبول كل المتغيرات وتحولها الى ثوابت. نجح هذا في الماضي وينجح حاضراً والأرجح مستقبلاً.
ان باراك أوباما قوي وضعيف. قوي برغبته بالتغيير وادراكه لضرورة حل النزاع العربي الاسرائيلي، لكنه ضعيف لأن اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة الأميركية أقوى منه في حرف وجهة القرار الذي يريد أخذه. إسرائيل ليست مجرد دولة خارجية يجري التعامل معها بخصوصية وامتياز فقط، انها مركز قرار داخل الولايات المتحدة الأميركية يعطي القليل ويأخذ الكثير. اسرائيل جزء من القرار القومي الأميركي حتى اشعار آخر.
أما أبو مازن فلا شك انه الطرف الأضعف، ليس بشخصه فقط، وانما من حيث الوضع الفلسطيني كله. الفلسطينيون حالياً ممزقون. حماس حققت انجازاً لم تحلم اسرائيل بتحقيقه وهو فصل غزة عن الضفة الغربية، وهي أصبحت الأم الطبيعية لكل التنظيمات الاسلامية المتطرفة، فهي، شاءت أم أبت، فإنها تخرج من رحمها، مما يسهل رميها من اسرائيل بالارهاب، ويسمح للأسف للقوى الغربية بالاقتناع بهذه الصفة المخيفة في زمن الحرب الدولية الثالثة ضد الارهاب.
الى جانب ذلك، ان ابو مازن يرأس سلطة لا تملك المال ولا السلاح، المال لتنهض بالوضع الفلسطيني، والسلاح لتخيف به أو على الأقل لتحصّن نفسها به. استبعاد الكفاح المسلح عملياً أضعف الفلسطينيين سواء تقرر ذلك ضمناً، أو بسبب العجز كما حصل في غزة حيث توقف التعامل مع الاسرائيليين بالسلاح بعد الحرب الاسرائيلية ضد غزة والمدنيين. إقناع حماس للغزاويين بالكفاح المسلح والمواجهة أصبح صعباً جداً. على الأقل يجب الاثبات بأن مردود أي مواجهة مع اسرائيل يستحق الثمن الذي سيدفعه أهل غزة، الذين صمدوا في حرب الرصاص المسكوب.
عودة الكفاح المسلح ممكنة جداً حتى في الضفة الغربية، لكن كلفتها عالية جداً. المهم استيلاد القناعة الشعبية بها.
هذا الضعف يمكنه أن يدفع أي شعب للتسليم بأي قرار من قيادته سواء كان ايجابياً أو سلبياً. لكن الذين يرفضون مباشرة الاستسلام لهذا الضعف الغادر ولم يروا فائدة للقمة الثلاثية، يرون ان الفلسطينيين اليوم هو أقوى ما يعتقد الكثيرون، وهم قادرون على رفض كل الضغوط عليهم، فلن يصيبهم أكثر مما أصابهم حتى الآن. يكفي ان الادارة الأوبامية ومعظم الغرب يرون مسألة الصراع الفلسطيني الاسرائيلي هي مركز الصراعات في العالم من أفغانستان الى العراق مروراً بأفريقيا والغرب نفسه، وبدون حل القضية الفلسطينية، فإن كل أنواع التطرف ستتوالد يومياً. وقد ثبت ان العنف المتوالد يكون دائماً تصاعدياً في الشكل والمضمون والتوجه. لذلك يجب العثور على حل وبسرعة حتى لا يصبح القرن الواحد والعشرون قرناً لهذا العنف وكل مآسيه الذي لا يمكن إلحاق هزيمة عسكرية كاملة به كما حصل مع ألمانيا النازية، ولا تفكيك الاتحاد السوفياتي بعد نصف قرن من الحرب الباردة.
الصراع في القرن العشرين، كان بين عالمين وخصوم مرئيين، وكانت الحروب بين جيوش وقوى منظمة تحت تسميات مختلفة. حالياً، لا توجد قواعد لهذه الحرب، لذلك الانتصار أو الهزيمة فيها صعبة جداً، لا بل أحياناً من المستحيل تحقيقها، وفي كل الحالات الكلفة على جميع الأصعدة مرتفعة جداً، الى درجة انه من الصعب تحملها. العالم في الحروب الماضية كان يتحمل خسارة ملايين من الأرواح البشرية، حالياً كل ضحية تسقط يحسب لها ألف حساب.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.